الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أحاديث صحفية عراقية في الحقبة الملكية

بواسطة azzaman

أحاديث صحفية عراقية في الحقبة الملكية

الجادرجي  وبطي.. الود المفقود وأحياناً العداء

مليح صالح شكر

 

 

شهدت الحياة السياسية والصحفية في العراق اختلاف في وجهات النظر بين شخصيات ذات تأثير في المجتمع ، بل تورطت بعض تلك الشخصيات في إستعداء السلطات العسكرية والمدنية على خصومها وتبادلت الشتائم فيما بينها علناً .

وقد أصيبت بهذا الداء شخصيات لعبت دوراً حاسماً في تاريخ العراق وهو الموضوع الذي أحاول ان ألقي فيه نظرة على حالة من تلك الحالات ، ولا أدعي بأنني منحاز لهذا الطرف أو ذاك .

ولاحظت في بحوثي حول تاريخ الصحافة العراقية أن العديد من الكفاءات الصحفية تبادلت فيما بينها ، العداء سياسياً وصحفياً ، لكن القضية التي نحن بصددها ، كانت قد عصفت بالعلاقات السياسية والصحفية بين شخصيتين ذات تأثير واسع النطاق في حقبة من حقب تاريخ العراق، ولم يسبق لأي باحث أو كاتب أن تحدث عنها في الصحافة العراقية.

كان كلاً من كامل الجادرجي ورفائيل بطي قد ترك لنا تراثاً وطنياً عراقياً لا يمكن محوه من الذاكرة الوطنية العراقية.

إبتداءً لابد من الإشارة الى أن الخطأ في كتابة إسم رفائيل ما يزال سائداً ، ووقعنا جميعنا ضحية عدم دقة كتابته ، فصار شائعاً ان نكتب ( روفائيل) والصحيح هو ( رفائيل ) كما يكتب في الوثائق الرسمية وكما كان هو يكتب أسمه ، وهكذا كان أسمه يتصدر جريدته ( البلاد ) طيلة وجودها في الأسواق، وكما توضح صورة ( الترويسة) المرفقة مع هذا البحث.

على أية حال ، تعود العلاقة بين الجادرجي وبطي إلى بداية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين عندما كانا ناشطين ضمن التيار الموالي لياسين الهاشمي ، الوزير ورئيس الوزراء النافذ في بعض سنوات تلك الحقبة من تاريخ العراق.

وعندما بدأ ياسين الهاشمي في حملته لمعارضة معاهدة عام 1930 شكل لنفسه حزب الأخاء الوطني، كما سهل له الصحفي رفائيل بطي نشر آراءه في صحيفة ( الأخبار ) التي كان يصدرها بالمشاركة مع جبران ملكون ، ثم في صحيفة ( البلاد) التي أطلقها بطي وعاشت طويلاً.

وإختار الهاشمي في الثاني من آب 1931 إصدار صحيفة حزبه الخاصة فأسماها ( الأخاء الوطني) ووضع الجادرجي مديراً مسؤولاً لها لكنه بقي على الاستعانة بصحف بطي كلما عطلت الحكومة صحيفة حزبه.

  • كانت صحف ( الأخبار) و(البلاد) و( الشعب) و( نداء الشعب) كلها وكأنها صحيفة واحدة في النهج السياسي والفن الصحفي التي برع بطي فيه وأتقنه.

اعضاء الحزب

وكتب نخبة من صحفي وسياسي وكتاب تلك السنوات مقالات وتعليقات وآراء في صحف بطي ، ومنهم ياسين الهاشمي ومحمد باقر الشبيبي وفهمي المدرس وإبراهيم صالح شكر ويونس السبعاوي ولطفي بكر صدقي ، مع أن بعضهم لم يكن من أعضاء حزب الأخاء الوطني.

بل حتى كامل الجادرجي أحد قادة الحزب قبل تركه له شارك في كتابة مقالات لصحف بطي.

ومن المؤكد أن الهاشمي وحزبه أعتمد على كفاءة وخبرة بطي في العمل الصحفي ، وكان هو شديد الولاء للهاشمي وأفكاره الوطنية.

يقول إبراهيم صالح شكر في إحدى مقالاته المنشورة أنه تعرف على الشاب رفائيل بطي في دكان وراق بالموصل شمال العراق ( دكان لبيع الكتب) عام 1915 خلال نفي العثمانيين له ، وتوطدت علاقة الصداقة بينهما في بغداد فيما بعد.

وكان بطي أحد ثلاثة من الذين كانوا في المستشفى في 15 مايس عام 1944 عندما توفي الوالد ابراهيم صالح شكر.

ورفائيل بطرس عيسى بطي من مواليد الموصل عام 1901? ودرس في مدارس الآباء الدومينيكان في الموصل خلال الحرب العالمية الأولى ،ثم حصل على شهادة دار المعلمين عام 1921 وعلى شهادة الحقوق عام 1929 وإمتهن الصحافة منذ ان أشتغل مع رزوق غنام صاحب صحيفة ( العراق)، وراسل صحف القدس ومصر في الوقت نفسه.

وأصدر بطي مجلته الأدبية الشهرية ( الحرية ) عام 1923 ولمدة سنتين ثم أستقر في عام 1929 على إصدار صحيفته السياسية اليومية( البلاد) وحافظ على ديمومتها 27 عاماً حتى وفاته عام 1956 وواصل أبناؤه يتقدمهم كمال رفائيل بطي إصدارهما حتى عام 1963.

وفي الجانب الآخر من موضوعنا، كامل رفعت أفندي الجادرجي من مواليد بغداد ودرس في مدارسها ثم الحقوق ، بعدها توظف في الوظائف العمومية مديراً لتحريرات لواء الحلة وأستقال ليخلفه في المنصب إبراهيم صالح شكر.

وكان أول عهد للوالد في الوظيفة العمومية بتاريخ 12 تموز 1924 حينما إختاره صديقه متصرف لواء الحلة علي جودت الأيوبي مديراً لتحريرات اللواء خلفاً للمدير المستقيل كامل الجادرجي.

وزارة الداخلية

العدد:10578

التاريخ: 24-7-1924

سعادة متصرف لواء الحلة المحترم

بعد التحية، ولاحقاً لكتابنا المرقم 9715 والمؤرخ في 3 تموز 1924?

بناء على إستقالة كامل أفندي الجادرجي من مديرية تحريرات لواء الحلة قد عينا إبراهيم أفندي صالح شكر مديراً لتحريرات لوائكم براتب 250 روبية شهرياً.

نرجو إنبائنا تاريخ مباشرته الوظيفة المذكورة وحسن إستخدامه.

ولسعادتكم الأحترام.

توقيع وزير الداخلية

وقبل أن نسترسل في حديثنا ، أود القول ان الوالد بقي في الحلة ثمانين يوماً واستقال عائداً الى بغداد لإصدار صحيفته ( الناشئة الجديدة) ، لكن وزير الداخلية عبد المحسن السعدون رفض الاستقالة وأقنعه بالانتقال مديراً لتحريرات متصرفية لواء ديالى في بعقوبة حيث كان المتصرف فيها صديقه علي جودت الايوبي بعد انتقاله إليها من الحلة.

ومنذ سنوات شبابه، كان العمل السياسي هو أهتمام الجادرجي وشارك في نشاطات حزبي الهاشمي ، الشعب أولاً ثم الأخاء الوطني. وكان قد بدأ حياته السياسية والصحفية في حزب الشعب وأصبح عام 1927 نائباً في مجلس النواب عن لواء الدليم وعمره آنذاك 30 عاماً ،

وواصل علاقته بنشاطات ياسين الهاشمي وأصبح عضواً في اللجنة العليا لحزب الأخاء الوطني الذي أسسه الهاشمي عام 1930 لمناهضة المعاهدة التي يستعد رئيس الحكومة نوري السعيد لتوقيعها مع بريطانيا ، وتولى حينها مهمة المدير المسؤول لصحيفة الحزب ( الأخاء الوطني ).

وتعرض الجادرجي لتعسف الحكومة التي أحالته للمحكمة بسبب المقالات التي نشرتها الصحيفة.

ويشير رفائيل بطي في كتابه ( الصحافة في العراق) وهو مجموعة المحاضرات التي ألقاها بطي في معهد الدراسات العربية بالقاهرة الى أن الجادرجي أستمر حزبياً حتى حزيران عام 1932 حين انسحب من الصحيفة ومن اللجنة العليا، ثم تخلى نهائياً عن عضويته في حزب الشعب.

وإنضم الجادرجي إلى جماعة الأهالي، وبسرعة أصبح الأكثر نفوذاً فيها بالرغم من أنه لم يكن من الأعضاء المؤسسين.

وفي 14 آذار 1934 أصدر صحيفة ( صوت الأهالي) بديلاً عن صحيفة الجماعة المعطلة ، لكن حكومة جميل المدفعي عطلتها لمدة سنة بقرار من مجلس الوزراء، واعتبرتها خطراً على أمن الدولة.

وعندما تولى ياسين الهاشمي في 17 آذار 1935 رئاسة الحكومة الجديدة ، إزداد التعسف الحكومي ضد جماعة الأهالي وصحفها حتى إنهم اشتكوا لدى الملك غازي مرتين دون جدوى.

وفي منعطف إنضمام حكمت سليمان الأكبر سناً الى الجماعة ، وهو أكثر خبرة وحنكة، وأنانية من جميع أعضاء الجماعة ،فوقعوا ضحية دهائه وهو يحيك سراً مؤامرته مع الفريق بكر صدقي للانتقام من ياسين الهاشمي لأنه من بين عدة اسباب ،لم يعيد استيزاره لوزارة الداخلية وهو من أنصاره.

وبإختصار شديد ، نجح قائد الفرقة الثانية بكر صدقي بالتواطؤ مع حكمت سليمان أحد قادة جماعة الاهالي يوم 29 تشرين الأول 1936 في تنفيذ الانقلاب العسكري وفرض على الملك غازي إقصاء حكومة ياسين الهاشمي وتكليف حكمت سليمان بتشكيل الحكومة الجديدة .

وشكل سليمان حكومته وإستوزر فيها ثلاثة من قادة جماعة الاهالي ، كامل الجادرجي وزيراً للأقتصاد وجعفر أبو التمن وزيراً للمالية ويوسف عز الدين إبراهيم وزيراً للمعارف، وغادر الهاشمي الى دمشق حيث توفي ودفن فيها بينما غادر نوري السعيد الى مصر.

وأصبح الفريق صدقي رئيساً لأركان الجيش بعد ان استوزر صديقه الفريق عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الأولى وزيراًً للدفاع.

وبقدر تعلق الأمر بالصحافة ، لم تتحرش حكومة سليمان في الفترة الأولى بالصحف بل وسمحت لصحف جديدة مناصرة للانقلاب العسكري ولنتائجه.

وواصل رفائيل بطي إصدار صحيفته ( البلاد)، وكان واضحاً بأنه قرر التصدي لجماعة الأهالي ، لكنه في الوقت نفسه دعم دور الجيش .

وتحدث بطي في إحدى مقالاته بصراحة عن أهدافه عندما قال ( إن الشباب الذين تنقصهم الخبرة أعتبر إنقلاب 29 تشرين الأول 1936 من الانقلابات الاجتماعية التي تحصل نتيجة ذيوع فكرة إجتماعية معينة في المجتمع وقيام أنصارها بثورة إجتماعية لبلوغ كراسي الحكم بقصد تغيير النظم القائمة وإستبدالها بالنظم الاخرى التي تسند مبادئهم الخاصة).

وفي الظروف التي كانت سائدة آنذاك ، لم يكن رفائيل بطي يقصد جماعة الأهالي فقط ، بل مناصري النظرية الشيوعية أيضاً الذين رحبوا بسقوط حكومة الهاشمي التي طاردتهم بشدة وهم في بداية نشاطهم السري .

ومن الواضح أن رفائيل بطي قد نجح في ضربته، فأحدث شرخاً بين قيادة الانقلاب وبين جماعة الأهالي، واستعدى الفريق صدقي على الشيوعية، وأصبح من الصحفيين المقربين من قائد الجيش الفريق بكر صدقي.

ولابد من الاشارة الى أن جماعة الأهالي كانت تعتبر رفائيل بطي في صفوف ( تكتل يجمع بين الرجعيين المناوئين للإتجاه التقدمي الديمقراطي ، وبين جماعة العهد السابق الذي طوح به الانقلاب، وعملاء الإنكليز).

وبالرغم من هذا العداء ، لم يستكن رفائيل بطي، وواصل إنتقامه وهو يعرف جيداً ان حكومة الانقلاب تعرف خبراته ، وحاجتها له لتحسين سمعتها في العواصم العربية.

وفي إحدى زياراتي لحسين جميل بمنزله في بغداد ، عرض أمامي مجموعة كبيرة من قصاصات الصحف العربية التي قال لي أنها حملة الصحف السورية واللبنانية والمصرية المناهضة لانقلاب العراق ، وعبر بعضها عن الخشية من أن تقود أطماع بكر صدقي إلى إقامة نظام دكتاتوري والخروج عن القواعد الدستورية وضياع سمعة العراق العربية.

والمعروف أن حسين جميل شغل بعد الانقلاب عام 1936 منصب مدير الدعاية العام لكنه أكتشف مبكراً طبيعة النظام العسكرية فسارع الى الاستقالة والعودة الى القضاء مرة اخرى.

والغريب أن حسين جميل تعرض لنفس المتاعب مع النظام العسكري في النظام الجمهوري عندما أقنعه رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم في آذار 1959 بتولي منصب وزير الإرشاد وأكتشف فوراً طبيعة الحكم العسكري فأستقال بعد أربعة أيام من توليه المنصب .

وتضايق حكمت سليمان كثيراً من هذه الحملة ولم يجد أمامه سوى رفائيل بطي لإحتوائها فأوفد صاحب صحيفة ( البلاد) في جولة عربية مفتوحة شملت سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وسافر في العاشر من تشرين الثاني 1936 أي بعد أسبوعين من الانقلاب العسكري تحت غطاء فتح مكتب لصحيفته في القاهرة وكان قادة جماعة الأهالي في ذروة نفوذهم.

ويوضح المؤرخ عبد الرزاق الحسني في الصفحة رقم 237 للجزء الرابع من موسوعته ( تاريخ الوزارات) أن رفائيل بطي كان مخولاً حتى بتوجيه الدعوة للصحفيين والكتاب العرب لزيارة العراق على نفقة الحكومة العراقية.

وقد نجح بطي في مهمته وفي تهدئة الخواطر وأدلى بتصريحات صحفية تمتدح قيادة الانقلاب ، وقد أستعرض المؤرخ الحسني نتائج هذه الجولة وقال إن عدداً من الصحفيين العرب قد بدأ بالوصول الى بغداد وأجروا مقابلات صحفية مع رئيس الاركان بكر صدقي ورئيس الحكومة حكمت سليمان ووزير الدفاع عبد اللطيف نوري.

وأورد المؤرخ الحسني أسماء الصحفيين العرب الذي زاروا العراق إنذاك ومنهم :

محمود أبو الفتح من صحيفة ( المصري) المصرية

نصوح بابيل صاحب صحيفة ( الأيام) السورية

عمر الصائغ صاحب صحيفة ( الإنشاء) السورية

يوسف إبراهيم يزبك من صحيفة ( صوت الأحرار) اللبنانية

وقطعاً ، ونتيجة للتفسير الهادىء للاحداث ، فإن بطي واصل حملته ضد جماعة الأهالي التي صار أسمها بعد الانقلاب ( جمعية الأصلاح الشعبي)، لذلك نراه يستمر في مسعاه ونجح في تحقيق ما كان يهدف إليه.

ويمكن القول ان بطي لم يعارض الانقلاب بشكل كامل، بل حصر التأييد للبعض دون البعض الآخر ، أي أيد نصف الحكومة وعادى النصف الأخر !

ووصلت حملة بطي ضد جماعة الأهالي ذروتها في آذار 1937 عندما أخرى مقابلة صحفية مثيرة مع زعيم الانقلاب بكر صدقي ، وأستخدم فيها تعابير ومصطلحات جديدة في السياسة والصحافة العراقية ونشرها في ( البلاد) يوم 18 آذار 1937 ونصها كما يأتي:

( دخلت مكتب القائد العظيم فقابلني بمعهود بشاشته ولطفه وأجلسني الى جانبه فجلست إليه جلسة الصديق دون أن أشعر بتكلف في الحديث.

ولما أستقر بي المقام وجهت السؤال التالي الى سعادته:

لابد في أن سعادتكم عالمون بأمر الإشاعات التي يبثها المفسدون الذين يضمرون الشر لهذه البلاد وحكومتها حول الشيوعية وتسربها الى نفوس العراقيين ، فما قول سعادتكم الفصل في هذه الإشاعات المنكرة وأنتم لكم اليد البيضاء على العراق سابقاً ولاحقاً، وأنتم لم تحجموا ولن تحجموا عن التضحية بالنفس والنفيس لخلاص الوطن من كل ورطة وأزمة ؟)

تساؤل ساخر

ويرد الفريق بكر صدقي على السؤال بتقديم شرح لما تتعرض له البلاد ، ويتساءل ساخراً:

( أفي العراق شيوعية؟ أيكون العراق شيوعياً ؟ كلا ثم كلا . كلا تربة العراق غير صالحة للشيوعية، والذي يحاول بث المبادىء الشيوعية في العراق كمن يزرع نخيل البصرة في جبال النرويج ، لأن كما للنباتات تربتها الخاصة كذلك للمبادىء بيئاتها الخاصة).

ثم يضيف الفريق بكر صدقي:

( إن الجيش لن يرضى عن ذرة من شأنها أن تخل بمبدأ الأخلاص للعرش ،فبصفة كوني أكبر ضابط في الجيش بعد مولاي الملك المعظم جلالة قائدنا الأكبر ، أصرح لكم بأن الجيش مستعد أن يقاوم حتى النفس الأخير كل حركة لها مساس مضر بعرش جلالة قائدنا العظيم ويقضي على تلك الحركة القضاء المبرم سواء كانت شيوعية أم غيرها).

وهكذا دق رفائيل بطي إسفيناً بين قائد الانقلاب العسكري وبين قادة جماعة الأهالي الذين سارع بعضهم الى التصريح برفض الشيوعية ونشرت صحيفة ( الأهالي) في اليوم التالي 19 آذار 1937 ما يؤكد رفض الشيوعية وتأكيد الإصلاح في جميع ميادين الحياة.وفي تحليل لتاريخ الصحافة والسياسة في تلك الفترة من تاريخ العراق ، لاحظت أن الأفكار الشيوعية قد تسللت فعلاً في صفوف جماعة الأهالي وعلى الخصوص من خلال أحد المؤسسين عبد القادر إسماعيل البستاني ونفوذه في صحيفة ( الأهالي) .

ويعترف كامل الجادرجي في مذكراته ما يسميه بالتطرف اليساري عند بعض الجماعة ، ولاسيما عبد القادر ، وظهور مقالات بتوقيع ( أنا) في الصحيفة الذي إتضح أنه يوسف متي، وتهديد عبد القادر بالاستقالة من الصحيفة وهو مديرها المسؤول إذا منعت تلك المقالات من النشر.

وقد إنضم الى عبد القادر ومتي في الصحيفة شيوعي ثالث هو زكي خيري بعد إطلاق سراحه من المعتقل الذي زجته فيه حكومة ياسين الهاشمي السابقة ، وعمل محاسباً في الصحيفة .

وكل واحد من هؤلاء الثلاثة سيكون في سنوات لاحقة عضواً في اللجنة المركزية أو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي.

وأصبح وجود وزراء جماعة الأهالي في الحكومة محرجاً بعد أن صارت الأمور تدار من قبل الجيش ، فقرروا الاستقالة من مناصبهم ، وهكذا قدم الجادرجي وابو التمن وعز الدين وشاركهم صالح جبر وزير العدلية في 19 حزيران 1937 استقالاتهم وسارع بعضهم الى مغادرة العراق.

وإنحسرت نشاطات جماعة الاهالي وكامل الجادرجي على الخصوص عقب سقوط تحالفهم مع الفريق بكر صدقي وإضطرار غالبية قادة الجماعة الى مغادرة العراق الى لبنان وقبرص بينما غادر أبو التمن إلى إيران ،وترتب على ذلك توقف صحيفة ( الأهالي) عن الصدور للفترة من عام 1937 وحتى 23 أيلول عام 1942 عندما أصدر الجادرجي بعد عودته الى العراق صحيفة ( صوت الاهالي). وفي تموز عام 1946 أصبحت الصحيفة الناطقة بأسم الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسسه الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل وآخرون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والسماح للأحزاب بالعمل ، وتأسست أيضاً أحزاب الاستقلال والشعب والاحرار.

ولم تتضمن أحداث ثورة مايس عام 1941 إلى ما يشير الى دور للجادرجي أو لجماعته بقدر ما تتحدث كتب التاريخ عن دور الصحفيين ومنهم رفائيل بطي وسلمان الصفواني ولطفي بكر صدقي وغيرهم في تلك الاحداث حتى ان الانكليز بعد استعادتهم زمام الامور بالقوة العسكرية أودعت الحكومة الصحفيين الذين ناصروا الثورة ومنهم بطي معتقل العمارة.

وتطورت الأحداث حتى شكل نوري السعيد وزارة جديدة في 21 تشرين الثاني 1946 فلجأ الى مناورة لإدارة الصراع بإحداث شرخ بين الأحزاب الخمسة فضم الى حكومته إثنين من قادة الأحزاب هما محمد حديد من الحزب الوطني الديمقراطي وزيراً للتموين وعلي ممتاز أحد قادة حزب الأحرار وزيراً للمواصلات بشرط أحترام حرية الصحافة وحرية الأحزاب بفتح فروع لها في المدن الأخرى خارج العاصمة بغداد.

ولما تنصل السعيد من تعهده بفتح فروع الأحزاب قدم محمد حديد استقالته وتبعه علي ممتاز بعد يومين.

طبعاً لم ترتاح الاحزاب الاخرى لمشاركة الوطني الديمقراطي والاحرار في الحكومة فنجح السعيد في الايقاع بين الاحزاب السياسية الخمسة وراح بعضها يشتم البعض الاخر على صفحات صحفهم الحزبية .

وأخذت معركة الصحافة منحى آخر عندما أستيقظت العلاقة غير الإيجابية بين الجادرجي ورفائيل بطي منذ عام 1936 وتبادلا الاتهامات علناً.

الآن عام 1946 وكما يبدو أن الجادرجي قد أمتعض من مقال بطي حول أشتراك الحزب الوطني الديمقراطي في حكومة نوري السعيد وأتهم فيه ( أركان هذا) الحزب بارتكاب أعمال سلبية .

فرد الجادرجي بمقال في ( صوت الأهالي) يوم 13 كانون الاول 1946 يذكّر فيه بطي بتاريخه الصحفي ، وقال أنه أشتغل مع أنستاس الكرملي في صحيفة ( العرب) التي أصدرتها سلطات الأحتلال الإنكليزي ثم إلتحق بصحيفة رزوق غنام ( العراق) والتي أنشأها الإنكليز أيضاً حتى أصدر صحيفة ( البلاد) لأن ( موقفه العدائي من حقوق الشعب ومصالحه لم يتغير).

وأنتقد الجادرجي في مقاله بطي ايضاً على تنقله من تأييد ياسين الهاشمي الى تأييد حكومة الانقلاب العسكري ،واتهمه بأنه ( يعادي كل حركة إصلاحية جديدة وحاول أن يتقنع بقناع القومية والوطنية وبغض الإنكليز، وإن ما يكتبه ضد الحزب الوطني الديمقراطي هو مجرد دس على الحزب).

وسكت بطي عشرة أيام ليبدأ في نشر سلسلة مقالات في ( البلاد) أيام 27و30و31 كانون الأول 1946 و 6 و7 و 10 كانون الثاني 1947 تحت عنوان ( شعوذة كامل أفندي بالحوادث والأرقام) وكال له الاتهامات قائلاً في الحلقة الأولى إن الجادرجي (لا يحمل عقيدة) وإنه ( آية في الاستبداد والتحكم والعناد).

وفي الحلقة الثانية قال بطي أن كامل الجادرجي ( يكره العرب ، وتعاون مع بيرون) مدير العلاقات العامة بالسفارة البريطانية في بغداد بعد فشل قورة مايس 1941.

ثم واصل هجومه في الحلقتين الثالثة والرابعة بالحديث عن تاريخ الجادرجي منذ أن كان موظفاً في متصرفية لواء بغداد وكيف ساعده ياسين الهاشمي في الحصول على مقعد أنتخابي وعينه مديراً مسؤولاً لصحيفة ( الأخاء الوطني) وقال ان ( الهاشمي دلل كامل الجادرجي لكنه تمرد عندما حان توزيع الكراسي).

وتحدث بطي في حلقات أخرى من مقالاته عن مصروفات الجادرجي المالية ونشاطاته الصحفية والسياسية وقال إنه كان ( ديمقراطياً من ديمقراطي الحرب ، ولم يكافح ، ولم يضح ، بل أخذ تقارير طبية في محاكماته) أيام حكومة أرشد العمري.

رفائيل بطي وزيراً

وعندما شكل الدكتور فاضل الجمالي وزارته الأولى في 17 أيلول 1953 أستوزر الصحفي رفائيل بطي وزيراً بلا وزارة هو وثلاثة آخرين لهذا المنصب هم أركان العبادي ومحمد شفيق العاني وصادق كمونة

وأحتفظ الجمالي ببطي وزيراً في وزارته الثانية التي شكلها في 27 شباط 1954 بعد أستقالة وزارته الأولى.

وقبل أن نواصل الحديث عن بطي وخلافاته مع الجادرجي ، لابد من إيضاح أن رفائيل بطي لم يكن كما يتوهم البعض أول وزير للإعلام في تاريخ العراق ، أو كما كانت تسمى ( الأنباء والتوجيه خلال العهد الملكي)، بل كان ( وزير بلا وزارة ) وكلفه رئيس الحكومة بشؤون الدعاية بينما بقيت جميع صلاحيات قانون المطبوعات محصورة بوزير الداخلية سعيد قزاز وفقاً للقانون النافذ حينذاك، وهو الذي يجيز إصدار الصحف والمجلات وهو الذي يعطلها .

ونؤكد القول بأن أول وزير للأنباء والتوجيه في تاريخ العراق كان برهان الدين باش أعيان في حكومة أحمد مختار بابان التي تشكلت في مايس 1958 وكانت آخر حكومة في العهد الملكي الذي أطيح به في14 تموز 1958.

وإنضم رفائيل بطي عام 1950 الى وزارة الخارجية ملحقاً ثقافياً في القاهرة وإصطحب عائلته معه وبعض من أولاده وكان أبنه الأصغر سناً فائق بعمر حوالي 15 عاماً ودرس فيما بعد في الجامعة الاميركية بالعاصمة المصرية .

وكنتُ قد إتصلت خلال سنوات إعدادي لشهادة الدكتوراه في جامعة أكستر البريطانية بالدكتور فاضل الجمالي الذي كان حينها يقيم في تونس مستفسراً عن جملة أمور من بينها ما يتعلق بالوزير بطي وعلاقته السلبية مع زملائه الصحفيين آنذاك.

وفي رده بخط اليد بتاريخ 15 شباط 1984 أوضح الجمالي لي إنه لم يفكر بأي صحفي آخر لضمه وزيراً في الحكومة وبأنه ( يعرف رفائيل منذ أيام الدراسة في دار المعلمين ، وعرفته صحفياً قديراً في عهد المرحوم ياسين الهاشمي في الثلاثينات).

وبغض النظر عن ما رافق بعض الدراسات من الثناء على حكومة فاضل الجمالي في فتح الباب لصدور صحف ومجلات كثيرة ومتعددة التوجهات السياسية وصل عددها الى 42 مطبوعاً ، أستطيع أن أؤكد انها كانت فترة محدودة ولم تكن من نتائج وجود رفائيل بطي وزيراً.

على أية حال ، بقي وزير الداخلية سعيد قزاز هو السلطة الأولى في التعامل مع الصحف ولم يكن مجلس الوزراء يرفض له طلباً في إجازة أو تعطيل صحيفة او مجلة ، بل كان رئيس الحكومة ووزيره رفائيل بطي يترددان على جلسات مجلس النواب للدفاع أو لتبرير قرارات التعسف ضد الصحافة.

وهذا ما حصل عندما عاد سعيد قزاز من البصرة بعد قمعه إضراب عمال شركة النفط فيها وإلتحق فور وصوله الى بغداد يوم 16 كانون الاول 1953 بإجتماع لمجلس الوزراء وطلب وتمت الموافقة على طلبه بتعطيل تسع صحف بتهمة الإخلال بالأمن وسلامة الدولة.ويقول المؤرخ عبد الرزاق الحسني في الصفحة 98 للجزء العاشر لموسوعته( تاريخ الوزارات ) أن الوزير بطي هو من طلب تعطيل تلك الصحف، لكن الدكتور الجمالي ينفي في رسالته لي هذه التهمة عن بطي، كما تنفيها الوثائق الرسمية المتوفرة عن تلك الفترة من تاريخ العراق.

والثابت هو أن الوزير بطي تحدث في جلسة لمجلس النواب لتبرير قرار مجلس الوزراء بتعطيل تلك الصحف وأتهمها ( بإشعال نار الاضطرابات).

وفي الوقت نفسه لا أعتقد أن بطي قد عارض في جلسة مجلس الوزراء قرار تعطيل الصحف لأنه ببساطة أصبح أحد أعضاء الحكومة ويلتزم بتقاليد العمل فيها.

 

وما نحن بصدده هنا هو عدم الود بين الجادرجي وبطي الذي أصبح وزيراً.

ومع إختلاف دوافع الاتهامات والانتقادات التي تعرض بطي لها بسبب مشاركته في الحكومة ، نرى أن بعضها صدر عن أصدقاء وزملاء لبطي في الصحافة، وبعضها الآخر شخصية.

وفي الاسابيع الاولى لاستيزازه حمل محمد مهدي الجواهري عليه بسبب الإعلانات الحكومية التي توزعها الحكومة على الصحف، وكتب الجواهري في صحيفته ( الرأي العام) يوم 10 تشرين الثاني 1953 متهماً بطي بالتصرف الكيفي في توزيع الإعلانات الحكومية ولا يمنحها ( للصحف التي لا تروق له).

وفي اليوم التالي 12 تشرين الثاني كتب صادق البصام مقالاً إفتتاحياً في صحيفة ( الحياد) إتهم فيه بطي ( بإستغلال منصبه الوزاري إستغلالاً خطيراً لم يكن مألوفاً من ذي قبل، ويتصرف بأموال الدولة وأعلاناتها ،وإغداقه إياها على بعض الصحف).

وحانت الفرصة لخصومه ، فاغتنمها كامل الجادرجي لتصفية حساب قديم ، واتهم الوزير بطي في ( صوت الأهالي) بأنه ( عدو لحرية الصحافة وأن وجوده أمر خطير) وأصبحت الوزارة التي يتولى شؤونها ( دائرة بوليسية)، وأقام ( خفارة خاصة في مديرية شرطة الصحافة وإعداد قرارات الإلغاء لخنق الصحف الحرة).

وأحتفظ الجمالي بالوزير بطي في وزارته الثانية ووصف في رسالته الخطية الحملة على بطي ( بأن الجزء الاكبر منها كان التحامل على بطي بدوافع شخصية).

وإضطر الجمالي للاستقالة إثر كارثة فيضان نهر دجلة في نيسان 1954 فشكل أرشد العمري الوزارة الجديدة محتفظا. بسعيد قزاز وزيراً للداخلية لكنه إستبعد رفائيل بطي منها.

وإنصرف رفائيل بطي بعد ذلك لإدارة وتحرير صحيفته ( البلاد ) وتوفي عام 1956 في منزله بالنوبة القلبية وخلفه أولاده في ادارة الصحيفة يتقدمهم رئيس التحرير كمال رفائيل بطي حتى عام 1963 حين الغتها الحكومة نهائياً.

وواصل كامل الجادرجي نشاطه السياسي الى أن عطل نوري السعيد عام 1954 الحياة السياسية والحزبية والصحفية والنقابية وحتى يوم 14 تموز 1958 حينما أطاح قادة عسكريون بالنظام الملكي واعلنوا النظام الجمهوري.

وتفوق عبد الكريم قاسم في دهائه على نوري السعيد في التخلص من الاحزاب ، ولم يكتف رئيس الحكومة في النظام الجمهوري بشق الحزب الوطني الديمقراطي بل أنهى وجوده الى الأبد ولم يعد كامل الجادرجي بعد عام 1960 للعمل السياسي حتى وفاته بالنوبة القلبية في شباط 1963.

وفي الحالتين عام 1936 وعام 1960 لم ينجح كامل الجادرجي في تحقيق اهدافه في ظل نظامي حكم منحهما التأييد لكنهما كانا نظامي حكم عسكري .

 

باحث في تاريخ الصحافة العراقية

 


مشاهدات 535
أضيف 2022/08/26 - 11:49 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 9:00 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 134 الشهر 134 الكلي 9362206
الوقت الآن
الإثنين 2024/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير