القدر.. مرايا لا تتشابه
حيدر عاشور
لم يكن من الخاسرين، فقد ورث اليأس والفقر منذ طفولته. أنه رجل يشبه السفينة التي ثقبتها الثلوج غواية الامل في حياة مثقوبة الحق، يمشي فوق أديمها في النهار شفرةٍ، وفي الليل أحلام يستريح لتحقيقها على الورق.. أنه بطل من ورق، ارتضى الاوهام بديلاً وركب اجنحة الطموح، لا يجلس بالضرورة على كرسي الحكم ولكن يشار اليه بالتميز، كالبذور التي تترك على مساحات الخضراء من أجل هبوب الرياح لتقع في حفرة أَعْتَدَ بيد فلاح. واختبأ من عمره الزمن وضاع الوقت وهجرته الاماني بملامح اليأس حتى حكم عليه بالطرد من بقايا الامل. اصبح كفراشة الصباح التي تهرب من وردتها عند هجوم الذباب الازرق الذي يطير الآن في السماء محتلا كل حقول النجوم وهو يدندن باسم الله.
لم يعد هناك فوز او مستقبل، والاورام السرطانية تقطع الانفاس وتفتح لعبة جديدة بين الشيطان والانسان. وبقي هو يستيقظ كل صباح يفرد ذراعه على ازرار الة ينقش عليها زهور وأحلام وطموح وافكار ويضيع كالمعتاد بين الاف الملفقين يعدون جنة المؤمنون وهم اصحاب النار المعرفين. بقي هكذا يضرب هواء الحجر قاسي على رأسه يدق فيه كالعصى، لا يعرف له مفتاح ولا يعلق وجوده في مستقبل. كل الذين أمامه ليس لهم اهمية ولكنهم يحكمون، يسخرون الشجر المثمر لقتال الغابة. هل خطر على عقل أحد أنهم نار الشيطان في غابة البشر؟!. الكل يعرف قاتله ويأكل معه مبتسماً.
صدفة ضحك له القدر بعد ان ركلته ارجل من كل حدب وصوب، وتخيل نفسه يسير في نومه على اطراف قدميه، متجها الى المنارة الذهبية التي تمدد نحو السماء وقريبة من الله وهناك اوقد شمعة حرقت كل ملامح اليأس الكبيرة، ونمت له اجنحة جديدة يتجول فيها بين القبب المقدسة. قام يرفرف كل صباح في الضريح واكتشف فيه الكثير من القادمين اليأسين، الذين قلعوا من جذورهم كأشجار الجميلة المغرورة بخضارها غير النافع، وضخامتها التي لا تفيد سوى النار. تمالك نفسه وصبر، وعرف.. لم تتغير الوجوه وانما تغير المكان فقط.. القدر لا قلب له، يفتتح لعبة الحياة دون تخطيط مسبق. القدر لا تقول لنا المرايا أبدا كيف يأتي؟. هو لا يفرق بين ساعة الحب وحرقة القلوب. عندئذ تجتمع في الروح حيواناتها التي تشبه في الحجم الاخوة الاعداء والاصدقاء الانداد والمعارف الدائمين للمؤامرات الذين تتردد اصداء حكاياتهم اللئيمة على البعد وتعرف بالمساجلة.
بدء يتمزق كورقة شجرة كبيرة تحت اظافر المؤمنين والقائمين على القداسة وهما متوهمان متآمران على البناء الصحيح فليس من المعقول خروف يقود انسان. فما عاد يلمس الا نقاء الضريح امسك بقوة بخيط النور لا يمكن ان يفلت من يده.. فنور الضريح اصبح له وطن يشبه المركب.. تخلا عنه ملاحوه وانصاعوا لجني ثمار ليس لهم، ذهبوا مع ريح لا تحسن تجفيف دموعهم الكاذبة، فهم يلعبون كاللصوص في لعب الاطفال.. كأنهم لا يدركون العسير الذي ينتظرهم. بقي وحيدا، خسر كل من حوله كي يكسب نفسه، تحمل ان يكون مثل حاكم لنفسه وهو اشقى من الشقاء المهم عنده ان لا يفلت من يده خيط نور الضريح.. فظل ملكا على احزانه، وما زال ملكا على احزانه. فرّ بعيدا عن الاقنعة وأكتفى بقناع وجهه، اسكت به الصقور والنسور والدواب المشاكسة وبعض العابرين على جناح الخوف والمرائيين الباطلين الجديرين بالرثاء.
لا يعرف لماذا تعيده هذه الدوامة الحياتية من الصور الحية الى نفس محطاته السابقة باختلاف ما بين خيط نور ابيض وخيط رخاء اسود....