(من أقوال الحكيم الحافي للحريزي)
الإقتراب الفنيّ من المتلازمة في النصوص الروائية
غانم عمران المعموري
عرفت الساحة الأدبية في الآونة الأخير مغامرات جريئة في صياغة وخلق نصوص جديدة والخروج عن المألوف والسائد من القول بلغةٍ سليمةٍ تتماشى وتنسجم مع ذائقة القارئ الذي بات يبحث عن التغير والتجديد بأنماط تثيره وتحرك خيالة في ظل التطورات الحاصلة بكل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية رغم توجس العديد من الأدباء الخيفة من الوقوع في جنس غريب ومشوهه إلا أن الملاحظ في أدباء عراقيين وعرب قد كسروا الرتابة ودخلوا في لعبة المغامرة الحرة من خلال ثقافتهم الواسعة في مختلف الفنون الأدبية ومنهم الأديب حميد الحريزي في نصوصه الّتي أطلق عليها اسم ( نصوص عراقكو ) الصادرة من دار رؤى للطباعة والنشر في طبعتها الأولى لعام 2021 والّتي جاءت ب 162 صفحة ..تُشّكل لوحة الغلاف كعتبةٍ نصيّةٍ دالةٍ لعنونةٍ مغريّةٍ غير كاشفةٍ لكنها مُثير للجدل وتُدخل القارئ في دوامة التفكير وتخلق في داخله العديد من الأسئلة وهذه لعبة المراوغة والفن والابداع الّتي تميز بها الحريزي فإنه عارف بأدواته الفنيّة وكيفية استدراج القارئ وايقاعها في شَرك التفكير .. وضع لنا الحريزي طبخة خاصة به فهو كالطباخ الماهر الّذي يُجرب العديد من الخلطات ليُخرج لنا أجود الأكلات فإن نظرت إلى نصوص عرقكو لوجدتها تتشابه كثيراً مع المتلازمة الأدبية التي تمخضت من الومضة القصصية لأنَّ جميع النصوص ابتدأت ب ( لأنَّها: المكونة من لام التعليل وحرف التوكيد ثم اسم لحرف التوكيد بضميرٍ متصل ) لكن النصوص تختلف عن المتلازمة حيث أن المتلازمة تتكون من العنوان والصدر والعجز أي سبب ونتيجة بالإضافة إلى الجملة الفعلية يكون فعلها مضارع لتسرع الحدث ونقطتان يستخدما في الربط بين السبب والنتيجة إلا أن الحريزي لم يُردْ المتلازمة بشروطها المعروفه كما في: لأنَّها خاليةُ الدّسَمَ أحبَّها عمالُ المطاعم صحونَ الفُقراء1.. لم يجعل من العنونةِ عتبَةٍ تعريفية توجيهية وإنما وضعها في نهاية النصوص وبذلك فإن تلك النصوص تخرج كونها متلازمة منشقة من الومضة القصصية لافتقادها شروط المتلازمة المتعارف عليها لكنها تقترب منها و أرد بذلك الخروج عن المعتاد وخلق نصوص نثرية تثير الأسئلة والفضول في مخيلة القارئ من خلال تجربته الواسعة في كافة أنواع الأجناس الأدبية وثقافته استطاع بأسلوب متحرر من كل القيود, وضع بصمة خاصة به.. استمد في صياغة نصوصه من الواقع اليومي والحياة الاجتماعية والصراعات السياسية والأزمات النفسية باعتباره عنصراً فعالاً في المنظومة الانسانية الّتي تُحتم عليه مُحاربة الفساد والرذيلة وكل مظاهر التخلف والظلم المجتمعي بحروفه اللاذعة لكل خائن وفاسد وظالم ومن خلال نصوص التي تتضمن أبعاداً وأهداف نبيلة أراد من خلالها تحريك مشاعر القارئ واثارة عواطفه واشراكه في التأمل في كل المضامين الّتي تظهر من خلال أسلوب السخرية والتهكم والنقد وعلامات الاستفهام بقلمٍ مثقفٍ حكيمٍ ثوري في المراوغة واللعب بالمفردات وتوجيهها الوجه الصحيحة وهي بذلك تنسجم من العنونة الرئيسة للكتاب ( من أقوال الحكيم الحافي ) فإن تلك النصوص عبارة عن ضربةٍ موجعةٍ من كاتبٍ يُنادي بأعلى صوته لكي يوقظ النائمين والساكتين على الفساد والظلم والجور بصورٍ شعريّةٍ وأسلوب مشهدي دراميّ يتسم بالتكثيف والايجاز الشديد فهي كالسهم الّذي يصيب الهدف برميَّةٍ واحدةٍ ..
كما أنه اتخذ من الرموز المثيويوجية والفلكلور والتراث والمثل الشعبي واسماء لشخصيات خلدها التاريخ والعبارات المتداولة بين الناس مادة خامة استخلص منها بخيالة الخصب وقدرته الابداعية والاستنباطية نصوص تُحاكي الواقع بكل مجالات وبعناوين مختلفة ( الحَلاّج, القَصّاب, فرَخْ البَطّ, صديقك, زوجتك, ؤالثائر المزَّيف, المُتحضّر, أفلاطون, ماركس, الموت, الداعشّي, هادي العلوي ّ, الفقير, الفيْلسوف, جيفارا, التشريني, المبْدئيّ, المُثقف, الديكتاتور, نزار قبانّي, طاغور, الحالم, الفلاح, الدّولار, الكاتب, الشّاعر, المناضل, المهاجر, نوال السّعداوي, الأمام عليّ (ع), الحُسيْن (ع), لوركا, عبد الكريم قاسم, غاندي ...وغيرها من عناوين) .
تضمنت نصوص المجموعة ثنائيات ضدية بين الموت والحياة والفقير والغني والجاهل والعالم والديكتاتور والمظلوم والوفي والخائن وقد طرح اسئلة ابداعية فلسفية في العديد من مفاصل الحياة بأسلوب شيق ويلامس ذائقة المتلقي وهي تقترب في أسلوبها من الومضة القصصية كما في: واعظٌ شيخَ المَسجد الذي رَنَّ صَوتهُ في مَسامعِ الجالسين, أبكاهم ساعاتٍ طوالاً؛ تَشَظتْ أجسادهم عندما خَلَعَ عباءتَهُ 2.. لأنَّه شَيطانٌ بزيّ عِمامَةٍ, يقتل الأحرار بدمٍ باردٍ فوقَ دمائِهم يؤدي صلاةَ الشّكرِ السّفاح..ص105 من اقوال الحكيم أداة المِنْجل الذي ورثه من أجداده حَصد به سنين طوالاً" استبدله أحفاده بقنينةِ خَمر.. لأنّهُ يعلمُ أنّها ستُطعِمُ الجياع لا يتألم حينما يحصُدُ رؤوس السّنابل المِنْجل..ص110 من أقوال الحكيم الحافي. لأنَّهُ هربَ خارجَ الوَطنِ امتْطى حصانَ المُعارضَةِ, لإتقانِهِ لُعبَةِ الهايكو, انْهالتْ عليْه المَكرُمات, الانتهازي..ص67. بلاءٌ رجال المُعارضةِ الذين نادوا بعباراتٍ مُعَتَّقةٍ بعَبيرِ الحُرية والاستقامة؛ أوجعوا شَعبهم عندَما أمسَكوا العصا بأيديهم..ص54. لأنّه قدّم الرّوح والمالَ والعيالَ, لأنهُ لا يعرفُ الخُنوعَ والخضوع, مهما لطَمتُمُ الصّدورَ, لأنّكُمْ سُرّاقٌ, بَريءٌ مِنْ نفاقِكِمُ, الحُسيْن ..ص 113 من أقوال الحكيم. حَلَقةٌ سارَ في قَلبِ العاصفة, تَتَقاذفه اتجاهات مختلفة وتَعْصفُ به رياح عاتية, نَظَرَ إلى السَماءِ, ارتَعَشَتْ قِمَمُ الجبال ... لَما رَفَع رايَة الإصلاح؛ قَذَفوه بالنبالِ..ص23 من المجموعة القصصية جدا. هكذا وردت العديد من نصوص عراقكو بهذ الصياغة والأسلوب المبني على التلازم والتماسك بين المقاطع بتقنيّةٍ فنيّةٍ ابداعية أراد بها التفرد والتغيير .
غانم
المصادر 1- الحريزي حميد: من أقوال الحكيم الحافي, نصوص عراقكو, دار رؤى للطباعة والنشر, ط1, 2021, ص10. 2- المعموري غانم عمران: عناقيد الجمر, قصص قصيرة جدا, دار ديوان العرب للنشر والتوزيع – مصر- بورسعيد, ط1, 2019, ص58.