الأخلاقيات الرقمية والمنظومة القيمية
حسين الزيادي
عالمنا اليوم عالم انتقالي يقع ما بين عالم افتراضي مستقبلي سيكون مرهون بشكل كامل بالصبغة الرقمية وستكون له الغلبة وفقاً للمعطيات الحالية، وعالم فعلي وجودي تقليدي سابق سيصبح جزء من الماضي، ولاشك ان الأخير سينتهي برحيل من يتمسك به وهم على الأغلب كبار السن، وعندها سيصبح العالم مرتبطاً بالوجود الرقمي الافتراضي، وربما يكون كلامنا غير مستساغ لدى البعض او يحمل في طياته شيء من المبالغة والتعقيد، لكن يقيناً ان هذه التوقعات لم تطلق جزافاً لأنها مبنية على اسس ومعطيات وركائز متينة، فالعصر الذي نعيشه اليوم هو (عصر الشاشة) التي تقف بقوة وحزم في وجه الإنسان أينما حل وارتحل، وقد توغل العالم الرقمي في حياتنا المعاصرة في كل جوانب الحياة، حتى اصبحت حالة الانغماس الكلي في عالم الرقمنة مسألة وقت ليس إلا، إذ اشارت الاحصاءات في عام 2020 أن أكثر من 4.5 مليار شخص من سكان العالم يستخدمون الانترنت، وأن 3.8 مليار شخص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، أي أن ما يقرب من 60% من سكان الارض هم (رقميون)، كما أن اكثر من ثلاثة ارباع سكان الأرض يمتلكون هاتفا محمولا ذكياً، اما في الدول العربية فقد وصل عدد مستخدمي الإنترنت عام 2020 إلى 248.75 مليوناً، بما يقارب 70% من السكان، وقد عجلت جائحة كورونا و ماتبعها من ازمات في بلورة شكل جديد لعالم رقمي ستكون له مجالاته الواسعة وبنيته الخاصة.
الاخلاقيات الرقمية
تعرف الأخلاقيات الرقمية على انها المعايير الأخلاقية التي تحكم العلاقة والتفاعل ما بين البشر والتكنولوجيا الرقمية، وتهدف إلى ضبط هذه العلاقة ووضع معايير اخلاقية لها فما نعيشه اليوم من بدايات لعالم افتراضي واسع ينبغي ان لا يسلخنا من هويتنا الانسانية التي باتت مهددة في ظل واقع رقمي لا يعبأ كثيراً بالقيم او الاخلاق والعقائد، وللأسف خرج البعض من ظلمة الجهل الرقمي، إلى ظلمات الانحدار الأخلاقي والادبي، وباتت سعادته تتحقق من خلال الأعداد التي تتابعه على صفحات التواصل الاجتماعي، واصبح هدفه الرئيس مرتبطاً بقدرته على التأثير والانتقال لحيز الشهرة، ولعل هذا ما جعل بعض رواد الفضاء الرقمي ومشاهيره أشبه بكائنات تفتقد للجذور الحقيقية، وتحول البعض منهم الى العيش في عالم الاغتراب الرقمي وأبعدهم عن مجتمعاتهم وعائلاتهم ليدخل الكثير من شبابنا عصر اللاهوية الثقافية والفراغ الفكري والعلاقات الوهمية والعاطفة الكاذبة. ما يزال البعض يعتقد أن العالم الرقمي هو عالم افتراضي، وأن الإنسان في حل من جميع الالتزامات الأخلاقية التي تحكم حياته الحقيقية، ومن هنا لا بد من التأكيد أن الحياة الرقمية أصبحت جزءاً من الحياة الواقعية، والعالم الافتراضي أصبح امتداداً للحياة التي نعيشها على أرض الواقع افراداً ومجتمعات، وتنطبق عليه جميع القوانين والأخلاقيات التي تطبق على أرض الواقع، ويترتب عليه جميع الالتزامات الأخلاقية، لأن الوسائط الرقمية هي امتداد لحياتنا اليومية والمواطنة الرقمية يجب أن نعكس أخلاقنا وقيمنا في العالم الواقعي، ويعد الحوار وتقبل الاخر من اهم تلك الاخلاقيات، فضلاً عن آداب النشر، واحترام حقوق الملكية، واستخدام ألفاظ مهذبة ولطيفة أثناء التواصل وتجنب اللغة المسيئة، ومشاركة المعلومات المفيدة للآخرين وعدم نشر أي محتوى مسيء لشخص، أو عرق، أو دين او طائفة، ولا يمكننا في هذه المقالة حصر كل الأخلاقيات التي نحتاج إليها في العالم الرقمي، فهذا الموضوع بحاجة إلى بحوث ودراسات مستفيضة، وحسبنا هنا أن نلتف الانتباه إلى أهمية الموضوع وتوجيه الاهتمام للتفكير الجاد بكيفية التعامل مع هذا التحدي الرقمي المتجدد، والدعوة الى غرس القيم والاخلاق الرقمية في نفوس ابنائنا، وتفعيل دور الاسرة والمدرسة ووسائل الاعلام والجامع ليأخذ كل منهم دوره في هذا الاتجاه، بل اصبحت الرقمية ومايتصل بها امراً يستدعي ان يكون ضمن مفردات الدراسة لما لها من اهمية في حياتنا ومستقبل ابنائنا.
لسنا ضد الرقمية
لسنا ضد الرقمنة التي سهلت الكثير من الامور وسهلت الاجتماعات والمراجعات والتواصل وعمليات البيع والشراء والتعاقد وزيادة كفاءة العمليات التجارية ، لكننا ضد أن تتحول التكنولوجيا إلى أيديولوجيا لاأخلاقية، فالثورة الرقمية التي تشهدها الحضارة الإنسانية والتطور التكنولوجي يزيدان من درجة التعقيد ويأخذان أبعاداً عالمية، حيث يتخللها الكثير من التحديات والإشكاليات الأخلاقية . ومثلما لدينا قيم أخلاقية ومبادئ توجّه سلوكنا في الحياة الواقعية، فإن سلوكنا في عالم الإنترنت يحتاج إلى بوصلة توجه مساره، فالإنترنت ليس عالماً جديداً يكون فيه أي شيء مقبولًا، وإنما يعد بعدا جديدا للعالم الواقعي الذي نعيشه ، ولاشك ان عالم الرقمنة يحمل جوانب جديدة فيما يتعلق بالعلاقات بين الافراد وسلوكيات واخلاقيات التعامل مع الاخر، لذلك برزت امامنا سلوكيات خاطئة وافعال خطيرة لم يعتد عليها المجتمع فهناك التنمر الالكتروني والقذف والسب وتتبع خصوصيات الاخرين والتجسس عليهم والانتقاد اللاذع، والاستهلاك الرفاهي والتجاوز اللفظي وانتهاك الملكية الفكرية، وهي سلوكيات تعكس عدم الضبط في العالم الافتراضي، وهذه التصرفات تبقى تصرفات سيئة كما هي في عالمنا الحقيقي، وأن القوانين المعمول بها حاليا في حياتنا الواقعية تنطبق على العالم الرقمي وان أي سلوك غير أخلاقي يمكن أن يؤدي إلى إلحاق الضرر أو جريمة في العالم الرقمي يجب التعامل معه بنفس الطريقة في العالم الحقيقي. تمنح الرقمنة الشخص القدرة، على أن يكون فاعلا ومتفاعلا في آن واحد مع البيئة الافتراضية التي يتسلل إليها وقتما شاء، مراقباً، وناشرا، ومُعلقا، ورافضاً، ومتهجماً احياناً ، وهنا يجب أن تكون للرقمنة أخلاقها وسلوكياتها وضوابطها التي تحكمها وبدون ذلك سوف يتعرض مرتاد هذا العالم للممسائلة، وعليه ينبغي علينا توجيه ذلك الشخص المنعزل في زاوية ما، بهاتفه الذكي ليكون عنصراً فعالا في عالمه الرقمي لاعنصراً ظلامياً .
العالم الرقمي والعالم الحقيقي
على الرغم من ايجابية مواقع التواصل التي تعد من ابرز مستجدات العصر فقد أصبحت هذه المواقع التواصل مجال عمومي افتراضي يستقطب الكثيرين للتعبير عن أراءهم وأفكارهم بحرية تامة ، بعيدا عن الصعوبات التي تكتنف العمل في باقي وسائل الإعلام التقليدية الا أن بعضها تحول الى فضاءات رقمية للجرائم الإلكترونية واللاأخلاقية نتيجة عدم التزام فئة من المستخدمين بالمسؤولية الاجتماعية والانضباط الأخلاقي والمهني في التعبير عن أفكارهم ، وبفعل ذلك تحول الحوار والنقاش الى صراعات طائفية عنصرية وتطور الأمر الى الإشادة بالأعمال الإرهابية والتطرفية وتمجيد الافكار والشخوص السيئة. البعضُ ينطلقُ في العوالمِ الافتراضية متحرراً من كل قيد، وكأنه لاتوجد ضوابطُ تحكم هذه العوالم . الصداقة في العالم الافتراضي، ينبغي أن يُلتَزَمَ بضوابِطِها، فمن توافق على صداقته؛ يجب ان تكون له صديقاً بكل ماتحمل الكلمة من معنى، فكلمة صديق مشتقة من الصدق، فكما تكون مع صديقك في الواقع، حريصاً على حفظ اسراره وعدم افشائها، كذلك هو الحال مع صديقك الافتراضي، فلا يجوز اختراق معلوماته وافشاء اسراره، ونقل خصوصياته الى الاخرين. ومادام العالم الافتراضي هو انعكاس لعالمنا الواقعي، وتسري عليه القوانين ذاتها التي تحكم عالمنا الحقيقي فنحن مدعون بشدة لغرس الاخلاق الرقمية لدى النشء الجديد خاصة وتنبيههم الى ان هناك جرائم الكترونية ترتبط بالعالم الرقمي تعاقب عليها القوانين ويجرمها المشرع ، ويجب ان نسعى بقوة ان يكون عالمنا الرقمي عالماً يحكمهُ الحب وتظلله الاخلاق الفاضلة ، وننشر فيه كلَّ ماهو مفيد ونافع، لا ان نُضيفَ الى ازمات الواقعِ ازماتٍ جديدة ، نعم الأصالة للواقع لكن هذا لايعني ان يجد اي شخصٍ فرصته لنفث سمومه واحقاده وعقده في عالم رقمي واسع اصبح جزء من حياتنا.