عاصفة التكنولوجيا تغيّر مصادر السلطة التقليدية
كيف تهدّد الثورة الرقمية سلطة المؤسسة الدينية (4-5)
منقذ داغر
تلعب مؤسسة الدين دوراً مهماً في التنشئة والضبط الأجتماعيًين في ضوء قدرتها على نقل المعلومة التي تريدها ,وحجب المعلومة الي لا تريد عن أتباع ذلك الدين. وفي القرآن الكريم حاجج الله تعالى الملائكة المستغربين من خلقه للانسان بقوة العلم والمعلومة التي لا يعرفونها،فقال جل جلاله "أني أعلم ما لا تعلمون" ثم طلب من آدم أن يحاججهم ويتفوق عليهم بقوة المعلومة"فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والارض) . لا بل أن الله تعالى حين أراد أعلام محمد(ص) بنبوته وأنه هو الله أنزل عليه (أقرأ) ثم أعلمه بكيفية خلق الأنسان وهي المعلومة التي يجهلها ثم أنبأه بنعمة العلم"علم الانسان ما لم يعلم" . أن كل الأنبياء الذين بُعثوا للناس طلبوا منهم أتباعهم لأن لديهم علم السماء وخبره وهو ما أختُصوا به دوناً عن كل البشر. فقوة الأنبياء لم تكمن فقط في معجزاتهم بل في علمهم الذي يُستمد من خالق البشر وبالتالي يتفوقون فيه عليهم. مرة أخرى،تكون المعلومة هي مصدر السلطة والتأثير. لذلك كان أول مسمار دًقّ في نعش الكهنوتية وسلطة الكنيسة المطلقة على الناس هو آلة الطباعة التي أختُرعت عام 1440 م.
لقد أتاحت آلة الطباعة طبع وتوزيع كثير من نسخ الأنجيل الذي كان محفوظاً في صحائف ومخطوطات موجودة في الكنائس أو أماكن التعليم الديني،ولا يعلمها سوى رجال الدين. لقد كان رجل الدين المسيحي آنذاك قادر على ممارسة سلطته وسيطرته لأنه كان يتكلم وكالةً عن الله حتى دون أن يستطيع أحد (من خارج مؤسسة الدين) قادر على التأكد من صحة ما يقوله . أما حينما طُبع الكتاب المقدس فقد بات متاحاً للجميع،وبات الجميع يستطيعون التحدث مع الله من خلال ما قاله لرسوله ودُوّن في كتابه المقدس والمطبوع والمتاح للجميع. لقد أدت الثورة الصناعية من خلال أختراعها للطباعة الى سلب جزء من سلطة رجال الدين وحولتها الى العامة فتسابق رجال الدين للأحتفاظ بجزء مهم من تلك السلطة من خلال المعلومات الخاصة بالتفسير والأجتهاد الذي هو أيضاً حكراً لهم يمارسون من خلاله سلطتهم على العباد. لقد أجتهد علماء ومتخصصو التفسير القرآني مثلا في كتابة عشرات ويقال مئات،كتب التفسير للقرآن الكريم مثلاً. وفعلوا مثل ذلك مع كثير من الكتب والشروحات التي أنتجوها عبر التاريخ والتي بات يصعب على القارىء العادي بل حتى المتخصص الألمام بها. وكان طلاب الدين يمضون أوقاتاً طويلة في مراجعة وتعلم بعض تلك التفاسير. هكذا بالنسبة لكتب الحديث وسواها من مراجع وكتب الدين التي كانت حكراً على المختصين بالدين تمنحهم سلطةً مطلقةً على أتباعهم. كنا حين نجلس في المسجد أو الحسينية أو الكنيسة، نجلس متلقين فقط لما يقوله رجل الدين لنا ودون تفكير أحياناً بمدى صحة او صدق ما يُقال لنا. بل كنا وكأن على رؤوسنا الطير،لا نملك سوى أن ننصت ولا نتكلم،كي نتلقى ونتعلم.وكم كان أعجابنا شديداً برجال الدين الذين يُلقون خطبهم ومواعظهم عن ظهر قلب ويضمنونها الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الأئمة والصحابة والسلف الصالح. كنا نشد الرحال لسماع تلك الخطب المليئة بالمعلومات التي نجهلها ولم تكن متاحة لنا.
ممارسة سلطة
أما اليوم فقد بات (مُسند كوكل) و(شرح أليكسا)،و(سُنن سيريSiri) قادرين على تزويدنا بأية معلومة،أو حديث،أو قول لعالم،أو رأي لمفسر، أو أسفار العهدين القديم والجديد بكبسة زر وقبل ان يرتد اليك طرفك. لم يعد رجل الدين كما لا زال الكثيرون يفعلون للآن قادرين على ممارسة سلطتهم المعلوماتية من خلال رواية القصص والأحاديث التي يريدون وتجاوز تلك التي لا تتناسب مع آرائهم.
لقد صار أصغر باحث شاب قادر على أن يأتيك بأحاديث وشروح وآراء دينية وفقهية لا يمكن لكثيرمن المعممين التقليديين أن يصلوا لها. وبغض النظر عن مدى صحة أو خطأ ذلك،فقد بات لكثير من الدعاة الشباب،من خارج المؤسسة الدينية الرسمية، ممن يجيدون لغة الحديث المعاصر ولهم القدرة على البحث في الشبكة العنكبوتية أتباعاً ومريدين أكبر بكثير من كبار علماء الدين من أبناء المؤسسة الدينية الرسمية.
هذه الظاهرة لم تعد خاصة بدين او مذهب معين ولا بمجتمع معين بل هي ظاهرة عالمية أملتها عوامل كثيرة في مقدمتها ثورة المعلومات التي أزاحت كل مؤسسات الضبط الأجتماعي عن عروشها.
لكن ما يواجه سلطة المؤسسة الدينية أكبر بكثير مما يواجه الأسرة والمدرسة،لأنها سلطة تعتمد معلومة الموروث،في حين أن شبابنا يعتمدون معلومة المبثوث.
بأختصار فأن سلطة المؤسسة الدينية لم تعد كما كانت وهي تواجه تحديات جدية عليها ان تعرف كيف تتعامل معها أن أرادت أدامة سلطتها وقدرتها على التأثير.