الصين في منطقتنا:كيف تغيرت قواعد اللعبة؟ (1)
منقذ داغر
لم تكن زيارة الرئيس الصيني الأخيرة للسعودية مجرد محطة في طريق العلاقات الأستراتيجية الصينية-الخليجية والذي بوشر بتأسيسه بهدوء وبعيداً عن الضجيج منذ عدة سنوات. هذا الطريق هو الذي جعل منطقة الخليج العربي تقفز في أهميتها للصين لتضع قدماً قوية ضمن أعلى 10 شركاء تجاريين لها. فقد أقترب حجم التجارة مع دول الخليج من حاجز المئتي مليار دولار سنوياً الآن بحيث باتت الصين أكبر شريك تجاري للسعودية (76 مليار دولار سنوياً) ،في حين أقترب حجم التبادل التجاري مع الأمارات من 65 مليار دولار.مع هذا فأن الزيارة الحالية للرئيس الصيني كما يبدو تدشن مرحلةً تتضاعف فيها سرعة قطار العلاقات وتشهد نقلةً نوعيةً من الصعيد الأقتصادي الى الشراكة الأستراتيجية متعددة الأطر. ولم تقتصر مؤشرات هذه النقلة النوعية في مستوى العلاقات على مظاهر الأستقبال للرئيس الصيني حيث أستقبله وزير الخارجية في المطار برفقة أمير الرياض في الوقت الذي لم يكن وزير الخارجية السعودي حاضراً عند أستقبال الرئيس الأمريكي بايدن في زيارته الأخيرة للرياض. ولا على العرض الجوي الذي رافق طائرة الرئيس الصيني أو طريقة أستقباله في الديوان الملكي. ولم تقتصر أيضاً على حجم الأتفاقيات التي وقعت بين السعودية والصين والتيكانت أتفاقية الشراكة الأستراتيجية في مقدمتها. بل ولا حتى على القمة العربية الصينية التي سيعقدها الرئيس الصيني في الرياض مع مختلف قادة المنطقة بشكل يفوق حتى ما حصل مع ترامب من قبل. أن أهم مؤشرات هذه المرحلة الجديدة يتمثل بمؤشرين أحدهما على الجانب السعودي والآخر على الجانب الصيني. فعلى الجانب السعودي ستضيف هذه الزيارة تعقيدات أكبر على العلاقات السعودية الأمريكية بخاصة بعد أن حذر نائب وزير الدفاع الأمريكي دول المنطقة قبل أقل من شهر في مؤتمر المنامة بالبحرين من مغبة أقامة علاقات وثيقة جدا مع الصين، وكذلك جولة وفد وزارة الخارجية الأمريكي في أسرائيل والأردن والبحرين الأسبوع الماضي والتي أكد فيها أيضاً على النقطة ذاتها. هذا دون أن ننسى العلاقات المتوترة أصلاً بين السعودية وأمريكا في أعقاب رفض السعودية الأستجابة لطلب الرئيس بايدن بتخفيض أسعار النفط. أما على الجانب الصيني فأن هذه الزيارة تأتي بعد أن أمّن الرئيس الصيني أنتخابه لدورة رئاسية ثالثة من قبل مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الأخير والذي أكد الصلاحيات الواسعة وشبه المطلقة لرئيسه. كما أن الزيارة تأتي في أعقاب تراجع أقتصادي واضح للصين بسبب تبعات الجائحة وعواقبها ليس فقط على الأقتصاد بل المجتمع الصيني وما شابته من أضطرابات ،ومحاولة الصين العودة بسرعة الى مستويات تنمية ما قبل كورونا.
شريك ستراتيجي
ولنبدأ بالجانب السعودي.فعلى الرغم من أنه لا توجد أشارات حقيقية على أن السعودية ستتخلى عن شريكها الأستراتيجي التاريخي(أمريكا) ألا أن كل ما جرى يوحي بمرحلة أستراتيجية جديدة تحررت فيها السعودية ودول الخليج الأخرى كالأمارات وقطر من دور التابع الى دور الصانع للأستراتيجية الشاملة،وليس فقط الأقتصادية،في منطقتنا. أن أهم ما يمكن تمييزه بوضوح هنا في دور الصانع هو أستفادته من تجربته التاريخية مع أمريكا أولاً،وأدراكه للمتغيرات المحلية والعالمية ثانياً. فقد أدركت السعودية أن ما يحرك أمريكا دائماً هو مصالحها وليس مصالح شركاؤها. كما أن هذه المصالح الأستراتيجية الأميركية،وعلى الرغم من تأثرها بالسياسات الحزبية لمن يحكم البيت الأبيض ألا أنها في النهاية تقرَرعلى أساس مؤسسي يبدو أنه حسم أمره بخصوص دور منطقة الخليج العربي وأهميتها بالنسبة لأمريكا. فخلال ثلاث حقب متتالية تعاقب فيها الديمقراطيون والجمهوريون على البيت الأبيض،بدأت بأدارة أوباما ثم ترامب وأخيراً بايدن ظلت العلاقات الأميركية الخليجية تعاني من نزعتي التعالي والتجاهل. فقد تعاملت الأدارات المتعاقبة مع دول الخليج بتعالي بلغ أقصاه في مرحلة ترامب الذي أحرج السعودية بالذات بالكثير من تصريحاته وتصرفاته. ولا يمكن هنا نسيان صورة ترامب بجانب الأمير محمد بن سلمان وهو(ترامب) ممسكا يأنموذج للمعدات العسكرية الأميركية التي سيشريها السعوديون بحوالي نصف تريليون دولار قائلاً"أن السعودية دولة ثرية وستشاركنا في ثروتها"!! لم يحرج ترامب بطريقة حديثه وتصرفاته تلك الأمير الشاب فقط بل أحرج الكبرياء السعودي كله. أما التجاهل، فقد تجسد بالفراغ الذي تركته أدارة أوباما (ومن أعقبها) في المنطقة والذي أدى لكوارث أستراتيجية(بالنسبة لدول الخليج) مثل التوسع الأيراني،وظهور داعش،والربيع العربي،والثورة السورية،وتهديد الملاحة في الخليج العربي. وكان تجاهل أميركا للقلق الأمني السعودي على حدودها اليمنية،وضعف رد الفعل الأميركي على مهاجمة الحوثيين لمصفى أرامكو، وأخيراً رفع الحوثيين من قائمة الأرهاب الأميركية في عهد بايدن هو القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للسعودية. لقد أدرك السعوديون ومعهم الأماراتيون أن أميركا لم تعد الشريك الراعي الذي يمكنه حماية مصالحها كما حصل أبان غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية. فأذا لم تعد أميركا قادرة على تلبية الأحتياجات والهواجس الأمنية الخليجية وبخاصة السعودية،فلماذا عليهم مراعاة مصالح أميركا الأستراتيجية في المنطقة؟ يجب التنبيه هنا الى أنني أحلل الأمور من وجهة النظر السعودية وليس الآخرين. ولأستكمال التحليل فلا بد من التعرف على أهم المتغيرات المحلية والأقليمية والدولية التي جعلت السعودية تقود هذه النزعة المتمردة علي سياسة القطب الواحد في منطقة الخليج العربي.