الرجل الذي رحل مرتين
مؤيد داود البصام
عندما أتحدث عن رزاق ابراهيم الأنسان والمثقف الواعي لدوره في المجتمع والحياة أنما أتحدث عمن ترسخ وظل في تلافيف عقلي يحمل هذا الاسم، ولم أدخر منذ أن رايته وقابلته في نهاية ستينيات القرن الماضي في مقهى عارف أغا في بداية شارع الرشيد من جهة باب المعظم أسماً آخر، كنا كالعادة في جلساتنا اليومية مع الشاعر عبد الامير الحصيري في احداها، حينما دخل المقهى شاب بملابس حملت غرابتها التي لم نعتادها في اوساطنا تلك الفترة، يرتدي دشداشة ووسطها حزام جلدي عريض ويلبس فوقها سترة ويعتمر (غترة) ابيض واسود ملفوفة على راسه كما يلفها السومريون والبابليون التي شاهدناها في منحوتاتهم، عرفني عبد الامير عليه الشاعر رزاق ابراهيم من مدينتي ، ولم يتغير الاسم على مدى الاعوام التي ظلت صداقتنا تنمو وتترسخ، وهي المفارقة التي وقع بها البعض فكتبوا عن وفاته، وهي بالحقيقة عن رزاق ابراهيم وليس عن رزاق ابراهيم حسن.
صديقنا الراحل رزاق ابراهيم نشر عن وفاته، يومها كنت اجلس في مقهى في باب المعظم بداية شارع المكتبات، قلت للذي نقل الخبر والجالسون، رزاق حي ولم يمت وهذا خبر مشكوك فيه، ونشرت رأي الذي اخذه احد الصحفيين الشباب الجالسين معنا، وفعلا خلال ثلاثة أيام ظهر رزاق، كان متعباً بعض الشيء ولكنه حي، وجاء بسكيج لغلاف صممه أحد الفنانين الشباب، وقال لي رايك بهذا الغلاف للكتاب الذي ارد به على خبر موتي، (رثاء ميت لم يزل حيا). اشرت له على بعض التصليحات أو الرأي في تعديل التصميم، وهكذا بقينا على اتصال مستمر في لقائنا في المقهى بداية شارع المكتبات.
ومن يتابع رزاق سيقف على ماكنة لا تتوقف طيلة النهار وقسم من الليل في حمل الهم الثقافي، لا بل لا يهدء ولا يستكين وهو يحاول أن يساعد الآخرين والنشر لهم في جريدة الزمان لانهم لم يستطيعوا من النشر فيها لجدية ما كانت تنشره والاسماء التي تنشر فيها، وكان صاحب حضوة من تنشر له الزمان لسببين ، سيكون قد دخل صف الكتاب المهمين، وثانيا سينال مكافاة من الصحيفة عندما كانت تدفع للكتاب، ولهذا كان رحمه الله ملاذا للكثير طلبا لان يتوسط لهم للنشر، ولم أعرف عنه أنه توقف أمام طلب شخص ما، كان يبذل قصارى جهده من أجل أن يساعد، لقد كانت طيبته التي عرفته بها أيام ستينيات القرن الماضي وخجله الذي لم يفارقه من تلك الايام لغاية مفارقتنا، وهو ما يشير انها طبيعته وجزء من تكوينه والا لتغيرت الامور بعد كل هذه السنين، وكشف عن طباعه وسلوكه أن كان مغايراً، لقد كان رحمه الله شخصية محببة وذات طباع لم ينزعج من أحد، حتى في المزاح الثقيل الذي كان صديقنا د.مالك المطلبي يمازحه، فقد كان يحني راسه مع ابتسامة خفيفة على شفتيه، ولم أسمعه يرد على مشاكسات المطلبي وهو الوحيد الذي كان يتجرء في مشاكسته، ومن قصص أخلاصه ووفائه بالعهد، أن طلب مني أن يستلف من مكتبتي مجموعة مصادر لاجل ابنته ايناس كمراجع لدراستها العليا، وجاء للبيت واختارا مجموعة مصادر ، سجلناها على ورقة كالعادة حينما يستلف من مكتبتي، وبعد فترة من دون أطالبه أو الح في عودة كتبي كما يحدث مع الكثيرين، حضر إلى الدار وبصحبته الكتب، رزاق من الشخصيات النادرة في طيبته ووفائه للعهود متعدد المواهب والروح المخلصة....
يمثل رزاق جيلا بدأت طلائعه بالانقراض مع تخصص التخصص الذي ابتدعته ما بعد الحداثة، فقد كان متعدد المواهب والاهتمامات الادبية والفكرية، فهو شاعر وصحفي له باع، ومدافع بالحرف والكلمة عن الطبقة العاملة، محقق ناجح في متابعة الاحداث والاشخاص صحفياً وادبياً، أمتلك تلك الروح التي اتصفت بها روح الموسوعية للذين كانوا ما قبل خمسينيات القرن العشرين، فهو واسع المعارف وكتب في العديد من المواضيع التي حملت هموم شعبه ووطنه، تحمل الكثير من المعاناة مع أصحاب المطابع والصحف ولكنه لم يكل أو يمل في ترسيخ قيمه الثقافية والدفاع بما آمن به، للصديق الراحل قصص كثيرة يحملها جيل من الكتاب والشعراء منذ خمسينيات القرن الماضي ولحين مغادرته عالمنا، عالم الضجيج الفارغ، تتحدث عن طيبته وثقافته وروحه العصامية المكافحة لاجل غد افضل، ولعل ما كتبه شعرا في حياته خاتمة لذكرى عطرة ما زالت تتجدد كل ما مرت ذكراه..
إذكروني على فراش المساء والحكايات والهوى والجفاء
إذكروني فإنني لست انسى? كلمات السنين يا أصدقائي
لن أقل للفؤاد مات الأحباء وذاب الحنين في أحشائــي
كل يوم يمر للعهد ذكــرى? وحياة جديدة للوفـــــــــاء