معاهدة بورتسموث وكيف تصدى لها الشعب العراقي
عدنان البك مدخل
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 م ، وجدت بريطانيا نفسها في وضع جديد فيما يعرف بـ " الشرق الأوسط " ، وأصبحت تابعة اقتصاديا للولايات المتحدة الأمريكية ، فكانت تفكر في علاقات خاصة في المنطقة لا سيما العراق ، وفي تلك الفترة كانت الحكومة العراقية الضعيفة في بداية تكوينها ، وفي تحالف مع بريطانيا تسعى من خلاله إلى علاقات متميزة معها .
عملت بريطانيا على إبرام معاهدة تضمن لها الكثير من الامتيازات في العراق والشرق الأوسط ، فعمدت بعد استقالة وزارة أرشد العمري وإسناد الوزارة الجديدة إلى نوري السعيد في 21 تشرين الثاني 1946 م ، ليفتح الطريق أمام صالح جبر الذي تسلم الوزارة في 29 آذار 1947 م ليقوم بتنفيذ السياسة المرسومة من قبلها .
الخلفية : بعد استقالة وزارة أرشد العمري -كما ذكرنا- أصرت بريطانيا أن تسند الوزارة الجديدة إلى نوري السعيد ، لتنفيذ الأهداف المرسومة من قبل الإدارة البريطانية ، وهي الضمان المقدم لبقائه في الوزارة ، رغم المعارضة الشديدة لسياسته الداخلية من قادة الأحزاب السياسية المعارضة والحركة الوطنية ، ومن بين تلك الأهداف القضاء على جميع معارضي الاحتلال البريطاني ، وتوجيه الضربات الشديدة لرافضي الهيمنة البريطانية ومشاريعها في العراق . وقد حقق نوري السعيد كل المهمات التي جاء من أجلها ولما كانت معاهدة حزيران 1930 م تنتهي عام 1955 م لأن مدتها 25 ( خمس وعشرون سنة ) ، فقد سعت الحكومة البريطانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى استبدالها بمعاهدة توطد لتسهيلات عسكرية في حال حدوث أي حرب مع كل من إيران أو الخليج العربي ، ولما لم يتقبل الشارع العراقي إبرام معاهدة مع المحتل البريطاني ، ورفضتها القوى والحركات السياسية والدينية طلبت بريطانيا من نوري السعيد تقديم استقالته ، وإيكال المهمة إلى صالح جبر في 29 آذار 1947 م . قوبلت حكومة صالح جبر بمعارضة شديدة من جميع أطراف الحركة الوطنية ، اتهمتها بتنفيذ السياسة الرامية لربط العراق بالتكتلات والمشاريع الاستسلامية . بدأت حكومة صالح جبر بتنفيذ مخطط يهدف إلى اختطاف مقاومة الحركة الوطنية - التي تشكل قوة المعارضة لتنفيذ مشاريعها ، حيث أغلقت الصحف الوطنية ، كما نفذت حكم الإعدام 19 من حزيران 1947 بأربعة ضباط كرد من الذين التحقوا بحركة البارزاني ، وحكمت على قادة الحزب الشيوعي بالإعدام ، واعتقلت العديد من القادة السياسيين .
المفاوضات
في تلك الظروف العصيبة التي عاشها الشعب ، قررت حكومة صالح جبر فتح باب المفاوضات مع بريطانيا لتعديل معاهدة 1930 التي طالما طالب الشعب بالغائها ، والتي حاولت الحكومة التعتيم عليها وإظهار الإيجابي منها فقط ، الا أن ذلك لم يمنع من انطلاق التظاهرات الرافضة لها .
سافر صالح جبر ( رئيس الوزراء ) ومحمد فاضل الجمالي ( وزير الخارجية ) لتجديد معاهدة 1930 مع بيفن ( وزير خارجية بريطانيا ) الذي كان من قادة حزب العمال البريطاني .
تصريحات الجمالي
أدلى الدكتور محمد فاضل الجمالي بتصريح في 6 كانون الثاني 1948 م كان الشرارة الأولى للانتفاضة ، حيث صدم الشعب بما نشرته وكالات الأنباء من تصريحات الجمالي ( عضو الوفد العراقي المفاوض في لندن ) ! وجاء فيه : إن الحكومة على وشك ان توقع معاهدة جديدة مع الحكومة البريطانية وإن هذه المعاهدة ستلاقي رضا واستحسان الشعب العراقي ، لكن الأمر أصبح حديث الشعب لأن عقد معاهدة جديدة في ظروف شاذة ومن قبل وزارة لا تستند إلى ثقة الشعب لابد أن تكون مجحفة بحقوق العراق وسيادته . أثارت تصريحات ( الجمالي ) استنكار جميع الأحزاب والقوى الوطنية التي تضم أحزاب الاستقلال ، والوطني الديمقراطي ، والشعب ، والاتحاد الوطني ، فضلا عن أحزاب وحركات سياسية غير مرخصة من أبرزها ( الحزب الشيوعي ) وصار احتمال الاحتراب العام والتعبير المكشوف بالتظاهرات هو الخيار الوحيد المطروح لإلغاء تلك المعاهدة وشكلت الأحزاب المذكورة فيما بينها لجنة سميت ( لجنة التعاون الوطني ). أصبحت الأجواء متوترة في كل شيء وهنا جاء هدير الطلبة الأكثر حماسا وتضحية ، فخرج طلبة الكليات والمعاهد والمدارس بتظاهرة سلمية ؛ تعبيرا عن شعورهم الوطني واستنكارا لتصريحات الجمالي ، طافت شوارع بغداد متحدية السلطة التي مارست منتهى القسوة والاهانات ضدهم لكبت شعورهم ، وحصلت مناوشات واشتباكات مع الشرطة مما بعث الحماسة لدى جماهير الشعب ولاسيما بعد أن راح وزير الداخلية يهدد ويتوعد الجماهير ببيانات قتالية ، فضلا عن توقيف عدد كبير منهم ، وتعطيل الدراسة في جميع الكليات والمعاهد مما أثار استنكار جميع القوى الوطنية . بقيت الشرطة تطوق الشوارع مدججة بالسلاح ، وتتلقى الأوامر بإطلاق النار وملاحقة المتظاهرين واعتقالهم ومصادرة الصحف الوطنية وإغلاق المحال التجارية والمقاهي والحوانيت ، كما استشهد الطالب شمران علوان وجرح العديد من الطلبة ، واستقالت الهيئة التدريسية لكلية الطب بسبب مقتل طالب آخر أمام مبنى الكلية واحتجاز بعض أساتذة الكليات وبعض الصحفيين بأمر من وزير الداخلية . وكرد فعل لذلك عمت المظاهرات جميع المحافظات وصار الموقف في بغداد في حرج .
وبعد أن تأزم الوضع دعا الوصي عبد الإله بن علي إلى اجتماع في البلاط الملكي حضره قرابة خمسة وعشرين شخصية وفي مقدمتهم محمد الصدر ، وجميل المدفعي ، وحكمت سليمان ، وحمدي الباجه جي ، وأرشد العمري ، ونصرة الفارسي وجعفر حمندي ومحمد رضا الشبيبي وعبد العزيز القصاب وصادق البصام ومحمد مهدي كبة وكامل الجادرجي وعلي ممتاز الدفتري ونقيب المحامين نجيب الراوي إضافة إلى هيئة الوزارة ورئيس الوزراء بالوكالة جمال بابان.انتقد السياسيون هذه المعاهدة وطالبوا برفضها في حين دافع عنها طاقم الوزارة وشجبوا الإضرابات والمظاهرات صدر بيان في ختام الاجتماع جاء فيه : إن المجتمعين - وقد استعرضوا المعاهدة العراقية البريطانية- أكدوا على ضرورة وقفها وقالوا إنها لا تحقق أماني البلاد وليست أداة صالحة لتوطيد الصداقة مع بريطانيا ، وأكد الوصي بانه يعد الشعب بأن لا تبرم أية معاهدة لا تضمن حقوق البلاد وأمانيها الوطنية . قوبل هذا البيان بسرور بالغ في مختلف الأوساط الشعبية والأحزاب السياسية وأعقبه اطلاق سراح المعتقلين والسماح بعودة الصحف المعطلة مما أدى إلى هدوء الوضع .
توقيع المعاهدة
في 15 كانون الثاني وفي تكتم مريب تم التوقيع على المعاهدة الجديدة التي سميت معاهدة ( بورتسموث ) أي في ميناء بورتسموث أو سميت بمعاهدة ( جبر- بيفن ) وعلى متن البارجة البريطانية فكتوريا من قبل الوفدين العراقي والبريطاني وكان يوما بهيجا في ضيافة الأسطول البريطاني .
كانت تنص المعاهدة على السماح للجيوش البريطانية بدخول العراق متى ما تشاء وكلما اشتبكت في حرب بالشرق الأوسط أو مع ( إيران ) وكذلك حتمت المعاهدة أن يمد العراق هذه الجيوش بكل التسهيلات والمساعدات في أراضيه ومياهه وأجوائه . نشرت الصحف نصوص المعاهدة التي جوبهت بانتقادات شديدة من جميع القوى الوطنية في اليوم الثاني وجاء مضمونها كما توقعه الشعب بأنها نسخة من معاهدة 1930 بل أضيف عليها ( يعني احتلال بصيغة معاهدة ).
وهنا نتساءل عن هذه المعاهدة ؟ فالمعاهدة كما يعرفها القانون الدولي : اتفاق استراتيجي سياسي أو عسكري بالتراضي بين دولتين وموضوعه تنظيم علاقة يحكمها هذا القانون ويتضمن حقوقا والتزامات تقع على عاتق الأطراف الموقعة فهل يا ترى كانت متساوية الحقوق والالتزامات ؟!
تصريحات صالح جبر ورد الفعل الشعبي
وفي اليوم التالي من التوقيع أدلى صالح جبر من لندن بتصريح أعرب فيه عن أمله بأن البرلمان العراقي والشعب سيجدان في المعاهدة ما يحقق الأماني تحقيقا كاملا وقال إن بعض العناصر الهدامة من النازيين ( القوميين ) والشيوعيين استغلت فرصة غيابي فأحدثت القلاقل في البلاد وإنه سيعود إلى العراق وسيسحق رؤوس هذه العناصر الفوضوية حتما . أثار هذا التصريح الرأي العام وعادت المظاهرات بأكثر من جديد وبلغت ذروتها يوم 16 ?انون الثاني 1948 وهو اليوم الذي عاد فيه صالح جبر من لندن حيث هبطت طائرته في مطار الحبانية ومنها وصل إلى بغداد بحماية كبيرة واتجه فورا إلى قصر الرحاب والتقى الأمير عبد الإله ( الوصي ) ليستطلع منه ما استجد ، وجرى نقاش حضره نوري السعيد وأثناء المناقشة أبدى صالح جبر استعداده لإعادة النظام إلى نصابه وهيبة الحكومة إلى سابق ا إذا سمح له بحرية التصرف خلال 24 ساعة فأيده بعض الحاضرين كنوري باشا السعيد وخالفه آخرون . ولم يلبث أن وجه خطابا مساء اليوم التالي بأنه سيمضي قدما في إبرام المعاهدة وكبح إرادة الشعب ، فقابلت جماهير الشعب إصرار صالح جبر وتحديه لإرادتها بتظاهرات صاخبة كبرى حاصرت البلاط الملكي وهي تهتف بسقوط الوزارة وإلغاء المعاهدة وتصغي إلى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وهو يلقي قصيدته في تجمع كبير في جامع الحيدر خانة كان يخاطب بها الجميع ليس العراق فحسب بل الشعب العربي ويحرضه على الثورة على حكامه ومن مقاطعها البارزة يقول وهو يخاطب فيه الطلبة وعامة الشعب الثائر الذين وصفهم بيان الحكومة بـ ( الرعاع ) وخاصة الشهداء ومنهم شقيقه جعفر الجواهري :
يقولون من هم أولاء الزعاغ
فأفهمهم بدم من هم
وأفهمهم بدم أنهم
عبيدك إن تدعهم يخدموا
وأنك أشرف من خيرهم
وكعبك من خده أكرم
وفي الباب الشرقي وبجانب تمثال السعدون وقف ممثلو لجنة التعاون الوطني يخاطبونها ويدعونها إلى مواصلة التظاهر حتى تستقيل حكومة صالح جبر وتلغي المعاهدة .
عقد صالح جبر اجتماعا في مقر وزارة الداخلية تقرر فيه منع أية تظاهرة واستعمال الأسلحة النارية لتفريق المتظاهرين كما أبرق وزير الداخلية إلى المتصرفيات ( المحافظات ) كافة توصية باستخدام القوة اذا تعذر تفريقها بالعصي ، فيما اتخذت قوات الشرطة مواقعها في أهم المراكز الحساسة في أنحاء العاصمة بغداد ، كما أصدر صالح جبر بيانا طلب فيه من المواطنين الخلود إلى الهدوء والسكينة وقال إن مقدمة منهاج وزارته كان تعديل المعاهدة العراقية - البريطانية بمعاهدة جديدة غير أن المواطنين لم يهتموا ببيان رئيس الوزراء صالح جبر بل إن القائمين بالحركة المعارضة عقدوا اجتماعا في دار جعفر حمندي حضره محمد رضا الشبيبي ومحمد مهدي كبة وكامل الجادرجي وحسين جميل وداخل الشعلان وعلي ممتاز الدفتري ونصرة الفارسي وآخرون واتفقوا على وجوب الاستمرار بالتظاهرات التي تصاعدت وبلغت أوجها في يوم 27 كانون الثاني 1948 ? حين تحولت العاصمة إلى ما يشبه ساحة حرب بعد أن احتلت قوات الشرطة مداخل الطرق وانطلقت سياراتها المصفحة تجوب الميادين الرئيسة ، ونصبت الرشاشات فوق البنايات العالية والمساجد وخاصة منارة ( جامع حنان ) في جانب الكرخ ومنارة جامع الأصفية في الرصافة وأخذت تحصد المتظاهرين فوق جسر المأمون الذي أطلق عليه فيما بعد جسر الشهداء سقط خلالها عشرات الشهداء ومئات الجرحى ، لم تنفع معها محاولات رئيس الوزراء صالح جبر وبياناته التي كانت تدعو المواطنين إلى الهدوء والسكينة ، مما اضطر وزارة الداخلية إلى الاستعانة بقوات الجيش للسيطرة على الأوضاع ، فطلب صالح جبر من وزير داخليته توفيق النائب ( وكيل وزير الدفاع في حينه ) أن يرسل تعزيزات عسكرية على وجه السرعة لمساعدة الشرطة لإنقاذ الموقف غير أن هذا الطلب لم يجد صدى لدى قيادة الجيش وأبدى الفريق صالح صائب الجبوري ( رئيس أركان الجيش ) آنذاك معارضته لذلك خوفا من وقوف الجيش لصالح الجماهير . أخذت الجماهير تزحف من جميع أحياء بغداد باتجاه شارع الرشيد حيث المجابهات مستمرة بين المتظاهرين والشرطة رغم دوي الرصاص ، ولما يئس صالح جبر هدد في بيان جديد باستعمال كل الوسائل لإخماد صوت الشعب غير أن بيانه هذا أحدث عكس الأثر المطلوب منه فقد زاد الجماهير حماسة وتضحية واستمرت في صفوف متكاتفة ومنظمة ومتفقة على وجوب الحيلولة دون تنفيذ المعاهدة ووجوب اسقاط الوزارة ، فكانت مقاومة منظمة تصور أروع صور جلال إرادة الشعب ، حيث سقط عدد من الشهداء بينهم جعفر الجواهري وقيس الألوسي . على الرغم من ذلك واصل المتظاهرون محاولاتهم لعبور الجسر تتقدمهم إحدى الفتيات الشابات صارت تعرف من ذلك الحين بفتاة الجسر .
حيث التقى المتظاهرون بعمال السكك القادمين من الكرخ ، في هذه الساعات العصيبة تتعاطف جمعية الصحفيين مع جماهير الشعب فتحتج على تعسف الحكومة ، ورئيس المجلس النيابي عبد العزيز القصاب ومعه عشرون نائبا هم اعضاء الجبهة الدستورية وغيرهم بتقديم استقالاتهم من المجلس النيابي ، كذلك قدم ثلاث وزراء هم وزير العدلية جمال بابان ووزير المالية يوسف رزق الله ) ووزير الشؤون الاجتماعية ( جميل عبد الوهاب ) ، وأصدر قادة الاحزاب الوطنية بيانا مشتركا ينددون بالحكومة ويطالبون باستقالتها .
أثناء هذا الغليان الشعبي كان الوصي عبد الإله ونوري السعيد ومحمد الصدر يتداولون فيما يمكن أن يؤول اليه الوضع الملتهب . اضطر الوصي ( عبد الاله بن علي ) إلى أن يكلف السيد محمد الصدر بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة صالح جبر ، بعد أن اتصل به رئيس ديوان التشريفات الملكية ( احمد مختار بابان ) يفيده بأن عدد الوزراء أصبح دون النصاب القانوني وطلب منه تقديم استقالته ، فقدمها صالح جبر على الفور في رسالة بعث بها إلى الوصي عبد الإله وقبلها ...
أصدر الوصي عبد الإله بن علي بيانا أذيع من دار الاذاعة ، أعرب عن أسفه للحوادث المؤسفة التي وقعت والدماء التي أريقت وأعلن عن استقالة وزارة صالح جبر وأكد قبولها وطلب من جميع المواطنين الخلود إلى السكينة والهدوء ، وقد قوبل بيان الوصي عبد الاله بالغبطة والسرور من قبل المواطنين حيث انقلبت المآتم إلى أفراح وشيعت بغداد في اليوم التالي شهداءها . كتبت الصحافة الكثير عن الوثبة ، فقد كتب كامل الجادرجي ، مقالا ألقى باللائمة على الحاكمين الذين أعمتهم بصيرتهم وطفت على نفوسهم مفاسد الحكم ، ووصف نضال الشعب بقوله : " انقلب هذا الشعب الكريم الهادي الذي حسبه الحكام بحرا ميثا بين عشية وضحاها إلى أمواج متلاطمة تصاعدت إلى عنان السماء " ، وتحدث الجادرجي عن صالح جبر بقوله : ( الطبيب الجاهل والحاكم الجاهل سواء ذاك يقود المريض إلى الموت وهذا يقود الأمة إلى الهلاك ).
ومن الأهازيج الشعبية التي رددتها الجماهير الغاضبة
الله أكبر يا عرب
اطفالنا كتلوها
ما صار هذا بكل بلد
نوري جبر سووها ....
تشكلت حكومة محمد الصدر في 29 كانون الثاني 1948 ? وطالبت الجماهير بتنفيذ مطالبها متمثلة ب :
1- إبطال معاهدة بورتسموث .
2- حل المجلس النيابي القائم وإجراء انتخابات .
3- إجراء التحقيق الدقيق مع المتسببين في قتل أبناء الشعب .
4- احترام الحريات الدستورية .
5- إفساح المجال للنشاط الحزبي .
6- حل مشكلة الغذاء .
وبالفعل ألغت حكومة محمد الصدر معاهدة بورتسموث وحلت البرلمان وجرت انتخابات جديدة للبرلمان ، وتشكيل لجنة تحقيق برئاسة عبد الجبار التكرلي ( عضو محكمة التمييز بالعراق ) وبعضوية كل من : عمر حفظي ( المفتش الاداري ) وعبد الحميد مهدي ( المفتش العدلي ) وفهمي الجراح ( المفتش الاداري ).
موقف النواب
عقد مجلس النواب بدورته الثانية عشر في 21 حزيران 1948 بعد مناقشة الرد على خطاب العرش في جلسة مجلس النواب المنعقدة في 28 تشرين الاول 1948 ? تحدث النائب عبد الرحمن الجليلي ، مبينا أن الوثيقة الوطنية ترجع في جذورها وآثارها إلى أسباب عميقة ، وأن أول هذه الأسباب أن الأمة بدأت تفهم وانتبهت عما كانت عليه من قبل ، وأضاف : صحيح أن معاهدة بورتسموث كانت سببا أساسيا ومباشزا ، إلا أن الوثيقة كانت أبعد في أسبابها من معاهدة بورتسموث ، والاصلاح ليس بإخراج موظف أو تغيير وزير لأن ذلك يعطي النتيجة التي لا يريدها المجتمع ويحرص عليها كل الحرص . كما دافع عن شهداء الأمة ، وطالب بتحقيق العدالة في المجتمع . كما توجه النائب محمد حديد ، بجلسة المجلس المنعقدة في 6 تموز 1948 ? بسؤال إلى مزاحم الباجةجي ( رئيس الوزراء ) ليجيب عليه شفهيا أمام مجلس النواب ، ومما جاء فيه : " .... بما أن حكومة صالح جبر قامت في حوادث كانون الثاني الماضي بإطلاق النار على المتظاهرين التي رفضت معاهدة ( جبر - بيفن ) الجائرة ووقع بسببها أناس شهداء وجرحى كثيرون ، فإن الحكومة تعتبر مسؤولة عن إراقة الدماء الزكية ، مما يستلزم إنزال العقاب بالذين أصدروا أوامر بإطلاق النار على أبناء الشعب في تلك الحركة المباركة " ، كما طالب الحكومة بنتائج التحقيق بهذه المسألة ، وقال : " هل شمل هذا التحقيق الوزراء المسؤولين عن تلك الأعمال الهمجية المخالفة للقواعد والقوانين الانسانية ... " . ويقصد النائب حديد هنا التعديل الذي أجراه مزاحم الباجه جي ( رئيس الوزراء ) على حكومته حيث اختار شاكر الوادي ( وزيرا للدفاع ) ( أحد المفاوضين الرئيسيين في معاهدة بورتسموث ) فأدى ذلك إلى استثارة المعارضة في البرلمان والأحزاب السياسية خارج البرلمان على حكومة ( الباجةجي ) ، ودفعه هذا الأمر في آخر المطاف لتقديم استقالته في 6 كانون الثاني 1949 . كما وجه النائب عبد الجبار الجومرد ، انتقادا شديدا لطبيعة الحكم في العراق واصفا هذا الحكم ووزراءه بمعاني كثيرة تتصل لشيئين أساسيين ، " الديمقراطية المنافقة " و " الدكتاتورية المؤقتة " . واختتم حديثه قائلا : " المجالس النيابية تمثل الأمة . والأمة التي لا تثق بمجلسها النيابي ولا تعتقد أن لها ممثلا ولا تحس بوجوده تتفجر في الشوارع أو على ضفاف الفرات أو على جبال شمال .... إن الشعب انتبه ووعى وذلك بوثبة كانون الثاني 1948 التي أسماها بالثورة المباركة الكبرى .
الخاتمة : إن الانتفاضة - التي قابل بها الشعب العراقي المعاهدة- دليل على الوعي الذي تمتعت به الجماهير وحركتها الوطنية ، وعلى الرغم من أن المعاهدة كانت السبب المباشر في الوثبة الوطنية إلا أنها لم تكن حدثا منفصلا عن أحداث العراق السابقة والوطن العربي . كما كان من أبرز مميزات الوثبة اتساقها وشمولها فهي ليست مقتصرة على الطلبة والعناصر المثقفة ولا جماعات الاحزاب ، بل كانت حركة شاملة جازمة هزت أعماق الجماهير الشعبية ، ولم تكن مقتصرة على العاصمة ( بغداد ) وحدها بل امتدت للعراق كله ، كانت الشعارات والمطالب التي تسير تحت لوانها المظاهرات في كل مكان متشابهة المعاني والأهداف أولا وذات طابع وطني وديمقراطي وقومي في وقت واحد ثانيا ، ففي حين كانت تطالب بجلاء الجيوش الأجنبية من العراق والأقطار العربية الأخرى وتحقيق الاستقلال التام وسقوط معاهدة ( بيفن ) ومحاكمة الوزراء الذين شاركوا بعقد المعاهدة والذين أصدروا أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين كانت تطالب بالحريات الديمقراطية وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وحل المجلس النيابي المزيف وحل المشاكل الاقتصادية .
عليه يمكن القول:
إن الموقف الشعبي العراقي أسقط كل رهانات الانكليز المراهنة على السياسيين العراقيين المخضرمين.
مثل وعبرة
مثل شعبي عراقي قصته باختصار أن رجلا كبيرا بالسن تزوج امرأة صغيرة السن اسمها (مانه) فكان إذا ذهب اليها ورأت الشيب في لحيته نتفته وقالت له : هذا الشيب يظهرك كبيرا ، وإذا ذهب إلى زوجته الأولى ( المسنة واسمها حانه ) تقول له : الشعر الأسود في لحيتك يذهب عنك الوقار فتنتفه ، واستمر الحال به هكذا حتى ذهبت لحيته فلما نظر إلى نفسه في المرآة قال : " بين حانه ومانه ضاعت لحانا " .