أفواه بين المطرقة والسندان
مروج العبيدي
في أيام مضت كانت الحياة ترتدي ثوبا فائق الجمال .. مرصع بدُرر البساطةِ والصفاء ليزيد من جمالها جمالاً.. كانت تجوب في أزقة بغداد الضيقة وتتراقص على أنغام سيمفونية الأزاميل والمطارق وهي تصدح من بين زوايا تلك الشوارع الطويلة دون توقف حتى ساعات المساء.
عرس بغدادي كانت تحتفي به الحياة كل يوم في سوق الصفارين (النحاسين) نسبة الى الصفر او النحاس او ما يسمى (بسوق الصفافير) الشهير في قلب بغداد والذي كان يضج بالحركة والنشاط والزوار والبائعين وهم يستمعون ويستمتعون بصوت الأزاميل و
المطارق والمسامير وقواطع المعدن الصدئة والجدران المتسخة ، حيث كان الحرفيون يجلسون على مقاعدهم الصغيرة ليجعلوا من تلك القطع النحاسية تحفة رائعة من المنقوشات والرسومات يتهافت الى شرائها السياح والزوار كأجمل هدية وبأي ثمن لانها تمثل تاريخ وحضارة امة تزخر بالفن والتراث المنقطع النظير.
ولكن ما آلت اليه الظروف في البلاد من غزوات وحروب وتدهور في الوضع الأمني ادى الى ركود هذه المهنة بشكل ملحوظ سبب في تراجع السياحة الذي اعتبر كعامل أساسي ساعد في أطاحة وإندثار السوق ..كذلك إستيراد البضائع النحاسية الرخيصة من المصانع الأجنبية كان لها الدور الكبير في انقراض السوق بعدما كان الأجانب سابقاً يشترون التحف المتمثلة بمصابيح الزيت النحاسية والدقيقة الصنع واللوحات المعدنية التي كانت تتزين بآيات القرآن والتي كتبت بخط عربي جميل وزخارف رائعة.
فباتت أفواه المطارق والأزاميل صامتة خرساء إلا من بعض أصوات تكاد ان تُسمع في أروقة تلك الأزقة المحتضرة من بعض الحرفيين
وهم يعلمون أن مهنتهم على وشك الانقراض وأنها مسألة وقت قبل ان تختفي محلاتهم القليلة ..
متمسكين بأنتمائهم إلى هذه الطرق الضيقة المنحدرة ذات الجدران الصفراء بالأسم فقط ، تشكو عيونهم أمنيات العودة للسوق كما كان في السابق يبتهج بمقتنياته النحاسية البراقة التي تسرد لنا قصصاً لن تنمحي من ذاكرة التراث العريق.