سنوات الرئيس معصوم الأربع في قصر السلام.. قرارات اللحظة الأخيرة تمشية حال وليس معالجة جذرية
الإستفتاء خطأ سياسي ومغامرة خاسرة غير محسوبة
حسين فوزي
"السنوات الأربع في قصر السلام..سيرة ومراجعات" للرئيس د. فؤاد معصوم يصدر عن دار الرافدين مطلع شهر آب الحالي في 280 صفحة، موزعة على 20 موضوعاً مفهرساً إلى حد الصفحة 245 لتسندها مجموعة من الصور والوثائق في بقية الكتاب.
وقراءة مذكرات الرئيس السابق تبين إلى أي مدى غياب الوعي الدستوري والقانوني لأغلب ساسة العراق الحاليين ممن يقبضون على مفاصل إدارة البلاد، مما شكل معاناة حقيقية لرئيس الدولة " رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يمثل سيادة البلاد، و يسهر على ضمان الالتزام بالدستور، والمحافظة على استقلال العراق، وسيادته، ووحدته، وسلامة أراضيه، وفقاً لأحكام الدستور".
فالرئيس معصوم استلم مهام رئاسة الدولة، وأول شيء لاحظه هو غياب قانون ينظم صلاحيات رئيس الجمهورية، مما دفعه إلى إعداد مشروع قانون دفعه إلى مجلس النواب ليبقى محفوظاً في أدراج رئاسته(!؟)، شأن العديد من القوانين الأخرى الضرورية لتنظيم عمل الدولة العراقية، في مقدمتها قانون المجلس الاتحادي المكمل لعمل مجلس النواب ضمن السلطة التشريعية، كونه الفرع الثاني لها، والضابط لإيقاع التشريعات بما ينسجم ومعطيات الدستور، الذي نصت عليه المادة (65) "أولا: يتم إنشاء مجلس تشريعي يدعى بـ"مجلس الاتحاد" يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وينظم تكوينه وشروط العضوية فيه واختصاصاته، وكل ما يتعلق به بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب."
وهكذا فقراءة مذكرات د. معصوم تبين أنه بصفته رئيساً للبلاد قد جرد من أية صلاحيات يمكن له أن يقدم عليها، وأصبح مجرد أداة لدمغ، أو حتى بدون دمغ، ما يقرره الآخرون على وفق ما جاء في نص المادة 73 بشأن صلاحيات رئيس الجمهورية، حيث أن أي تشريع أو قرار يعتبر نافذاً وينشر في الجريدة الرسمية بعد 15 يوماً من تسليمه لرئاسة البلاد. وهو الوضع الذي يشكل تحجيماً مروعاً لدور الرئيس وتوصيفه في المادة 67 فمن ناحية عملية لن يستطيع الرئيس لا حراسة الدستور ولا مراقبة دستورية أي أجراء يقدم عليه الفرع الثاني السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، كذلك ما يشرعه مجلس النواب. وهي الحال التي تصطدم بالوعي الدستوري والقانوني والخبرة المتراكمة لشخصية مثل د. معصوم الذي استوعب نجاحات وإخفاقات الكثير من التجارب الإنسانية، وكانت ملهمه عند توليه رئاسة حكومة إقليم كردستان بعد انسحاب النظام الشمولي من الإقليم بعد انتفاضة آذار 1991 وانسحاب الإدارة العراقية الاتحادية من الإقليم بمحافظاته الثلاث، مما وفر خلال فترته حل مشاكل مستعصية، في مقدمتها توفير أموال الرواتب والخدمات، إضافة إلى استبعاد كل أشكال المحسوبية، وهو ما أثار نقمة الكثيرين عليه.
في ظل هذا "التجريد والتكتيف" الواضحين لرئيس الجمهورية واجه د. معصوم منذ اللحظة الأولى ما أسماه بـ"الاشتباك المعقد"(ص32) عند توليه مهامه رئيساً للبلاد بعد أداء اليمين الدستوري، حيث جاءه مظروف يتضمن ورقة بتوقيع السيد نوري المالكي رئيس الوزراء المنتهية ولايته الثانية تقول "إن الكتلة الأكبر هي دولة القانون ومرشحها لرئاسة الحكومة السيد المالكي"، وبحكم وعيه لسياقات العملية الدستورية فأنه ألتزم بالمضمون الدستوري والقانوني في أن يتولى تحديد من هي الكتلة الأكبر رئيس مجلس النواب أو المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أو المحكمة الاتحادية. وهذا مثال بسيط لكنه بالغ الحساسية في الوعي العميق للرئيس معصوم لكيفية إدارة أمور الدولة، على الرغم مما يربطه من علاقة شخصية بالمالكي حيث يقول "وحين كنت أفكر بأسماء المرشحين لتولي رئاسة مجلس الوزراء كنت أتمنى في قرارة نفسي أن يكون المالكي واحداً منهم...".(ص38)? وهنا لا بد من تذكر أن السيد المالكي نفسه وقف ضد تكليف السيد إياد علاوي بتشكيل حكومة عندما أحرز مقعدين أكثر مما أحرزه المالكي في ولايته الثانية.
قرارات وتشريعات اللحظة الأخيرة
كان د. معصوم قد أعلن تأييده لترشيح د. برهم صالح لتولي رئاسة الجمهورية، لكن عندما برز أكثر من مرشح ضمن الاتحاد الوطني الكردستاني، إذ ترشح محافظ كركوك الطبيب نجم الدين كريم لرئاسة العراق، قرر الترشح لرئاسة الدولة، وهو ترشح لم يحسم حتى قبل ساعتين من موعد إغلاق باب الترشيح، إذ اتصلت به السيدة هيرو أحمد عضو المكتب السياسي الأكثر نفوذا في الحزب يوم 20 تموز 2014 وسألته إن كان قدم طلباً لترشيح نفسه للمسؤولية، ودعته إلى الإسراع بتقديم طلب ترشحه إلى رئيس مجلس النواب. (ص17).
وعلى نفس المنوال كان تكليف د. حيدر العبادي برئاسة مجلس الوزراء، فيقول الرئيس معصوم أنه حتى يوم الأحد 10 آب 2014 لم تكن الكتلة الأكبر قد قدمت أسم مرشحها لرئاسة الوزراء، وأبلغت د. إبراهيم الجعفري بصفته رئيس التحالف الوطني ليبلغ جميع الأطراف أنه أمامهم 24 ساعة، في حالة عدم تقديم مرشحهم سيكلف ظهر يوم الاثنين 11 آب 2014 المالكي بتشكيل الحكومة. في صباح اليوم التالي، في ساعة مبكرة من يوم الاثنين تم التوافق على ترشيح العبادي من حزب الدعوة، وأبلغت بذلك، ليحضر العبادي ومعه رئيس مجلس النواب د. سليم الجبوري ود. الجعفري رئيس التحالف الوطني وعدد من قيادات التحالف منهم د. حسين الشهرستاني وباقر جبر صولاغ وآخرين للمشاركة في حفل بسيط لتكليف العبادي رئيساً لمجلس الوزراء. (ص39).
ويقول الرئيس معصوم في نفس الصفحة عن طبيعة الإجراءات المتخذة لمعالجة الأوضاع العراقية "دائماً تأتي الحلول في اللحظات الأخيرة، وهذا ما دأبت عليه العملية السياسية في معظم اختناقاتها. قد تكون أحياناً حلولاً اضطرارية، لكنها تظل حلولاً لـ"تمشية الحال"،..." ويضيف "أخذت نفساً عميقاً...، لقد اجتزنا وضعاً خانقاً وصعباً...لكن ما ينتظرنا رئيساً وحكومة وبرلماناً وشعباً كان هو الأصعب."
انعدام الانسجام والتنسيق بين فرعي السلطة التنفيذية
رئاسية أم نيابية
في غالبية العناوين التالية لمذكراته، يشيد الرئيس معصوم بقدرات د. العبادي على تحشيد كل الطاقات لمواجهة هجمتين خطيرتين، الأولى هجمة داعش والسيطرة على محافظات عديدة تقارب أكثر من ربع أراضي البلاد، وتدني أسعار النفط بكل ما شكلته من ضغط على موارد حياة المواطنين بجانب تمويل الجهد العسكري وبقية الجهود الوطنية للتصدي لداعش وطردها من الأراضي العراقية.
كما انه يشيد بتوجهات مجلس الوزراء برئاسة العبادي لمحاربة الكثير من السلبيات، ضمنها التضخم الوظيفي وتعدد الرواتب واخذ بعض الدرجات الوظيفية العليا لرواتب بدون استحقاق شروط الخدمة، لكنه يأخذ على العبادي أنه أقدم، بسبب سوء المشورة القانونية والدستورية من معاونيه، على بعض الخطوات خارج السياقات المنصوص عليها، منها على سبيل المثال مسألة إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، حيث ردت المحكمة الاتحادية قراره، وهناك قرارات عديدة أخرى ردت لنفس السبب. ويؤكد د. معصوم أنه تمنى على العبادي أن تكون الإجراءات وفق السياقات التي تمنع الارتداد عليها... لكن ما حدث هو العكس، وبقدر ما حاول البعض الاحتماء من الغضب الشعبي بالوقوف خلف مطلب الإصلاح والتغيير، فأنهم استغلوا أخطاء الإجراءات ليلتفوا على العبادي ويوقفوا زخم الإصلاحات التي كان يريدها.
أما القضية الثانية التي توضح مدى عدم الانسجام فهي قضية المشاركة في المؤتمرات واللقاءات العربية والعالمية، حيث حضر رئيس الجمهورية دورة الأمم المتحدة بناء على الدعوة الموجهة له، لكن حضرها أيضاً رئيس الوزراء، كل منهم منفصلاً عن الأخر وعلى رأس وفد. (ص64).
والحقيقة أن هذا الموضوع يتخطى مسألة الانسجام والتفاهم بين رئيسي فرعي السلطة التنفيذية إلى قضية اكبر هي طبيعة النظام السياسي في البلاد، فالعادة جرت قبل خلع النظام الشمولي أن توجه الدعوات إلى رئيس الجمهورية من قبل الأمم المتحدة والجامعة العربية وأية ملتقيات، بحكم طبيعة النظام الرئاسي (الشمولي) في العراق حينذاك، حيث لرئيس الجمهورية صلاحيات السلطة التنفيذية كاملة. وقد بقيت الدعوات توجه للعراق على هذا الأساس دون تشخيص المتغيرات. من ناحية أخرى فأن للدكتور فؤاد معصوم ثقله في العلاقات العربية والإقليمية والدولية، بحكم تاريخ نضاله السياسي، وسيرته السياسية المتسمة بالاعتدال والحرص على العدالة والرحمة، مما جعل الكثير من الأطراف، حتى زمن النظام الشمولي، تفضل عند التفاوض وجوده لقدرته على استنباط حلول تجعل الجميع رابحين.
مع هذا ففي أحيان عديدة تولى الرئيس معصوم تمثيل العراق بدون هذه الازدواجية الضارة على رأس وفود وزارية رفيعة المستوى من اجل تحري المصالح المشتركة مع الدول والمنظمات العربية والإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق أيضاً يمكن مراجعة زيارة الرئيس معصوم متوجهاً مباشرة من النجف بعد لقائه مع سماحة المجتهد الأكبر سماحة السيد علي السيستاني إلى السعودية ولقائه مع الملك عبد الله، بكل ما يعنيه خط السفر من معنى قصده الرئيس العراقي، ولم يغفل معانيه الملك السعودي الذي قال في معرض المحادثات "السيد السيستاني رجل حكيم" وعبر عن حرص السعودية على سلامة "وحدة العراق الموحد". ص86-87.
وفي السياق نفسه كانت له زيارات إلى الأردن ومصر ولقاء مع الرئيس التركي اردوغان والإدارة الأميركية وجميعها اتسمت بالاستجابة لطروحات الرئيس معصوم والاتفاق على التعاون لدعم محاربة الإرهاب، حد أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني طرح فكرة وضع شارات الجيش العراقي على الطائرات العراقية لاستخدامها في ضرب أوكار داعش. إلى جانب حرصه على طرح متوازن للعلاقة مع الجارة إيران وطبيعة الوشائج التاريخية والاجتماعية والجغرافية التي تربط البلدين، في ظل الصراع الدائر بين واشنطن وإيران، من خلال اللقاء بقيادة البلدين وتأكيد تمسك العراق بمبدأ أن لا تكون أرضه ساحة للصراع الطرفين، أو منطلقاً ضد أية دولة أخرى.
من ناحية أخرى فأن د. العبادي رئيس مجلس الوزراء وفق المادة 78 من الدستور هو "رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بإدارة مجلس الوزراء ويترأس اجتماعاته..."، مما يعني أن مشاركة العبادي في اللقاءات مع بقية العالم تكتسب ضرورة ملحة، أو بالأقل أن لا يتم أي لقاء أو مشاركة فيها دون تنسيق كامل مع مجلس الوزراء ورئيسه، وهو ما حاول د. معصوم تحقيقه قبل أي لقاء، لكن القضية كانت في نظر "رئاسة" الوزراء هي قضية طبيعة النظام هل هو رئاسي أو نيابي، وفي ظل غياب قانون ينظم صلاحيات رئيس الجمهورية، وتدني مستوى التنسيق الثنائي، فكان الحضور "المتضارب" لشخصيتين تتشاركان الكثير من الأفكار لكنهما صارا في خلاف بحكم عدم وضوح القوانين، وطبيعة شخصية د.العبادي المتشددة في بعض الجوانب أحياناً، برغم كل ما أثبته من مرونة وفطنة عاليتين في معالجة الكثير من القضايا، في مقدمتها الخلافات مع إقليم كردستان، بالأخص قضية الاستفتاء على الانفصال.
وفي ص93 نص لرسالة للراحل الرئيس جلال طالباني عن تصوره لصلاحيات رئيس الجمهورية تبين طبيعة الاختلاف بين رؤية "التحالف الوطني" وما يمثله لرئاسة الدولة، سواء أكانت للكرد أو "غيرهم"، والحرص على أن تكون كل صلاحيات السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء.
الاستفتاء وطموح الدولة الكردستانية
تعرض الرئيس د. محمد فؤاد معصوم، الذي لا يعرف الكثيرون أن أسمه محمد فؤاد، حتى غالبية أعضاء مجلس النواب، ضمنهم القيادي في المجلس الأعلى باقر جبر صولاغ الذي كان قريباً منه، على طريقة الإسلاميين المتصوفة الذين يحرصون على أسماء أل البيت، بالأخص أسم سيدنا الرسول (ص) والأئمة من عترته، تعرض للكثير من محاولات التشويه والتشهير، في البداية كانت قضية جنسيته البريطانية التي كان قد سارع للتخلي عنها فور توليه منصبه السيادي، حيث يقول في ص74 أنه بعد انتخابه لرئاسة دولة العراق تقدم بطلب إلى سلطات المملكة المتحدة عبر سفارتها في بغداد شاكراً رعاية العراقيين المعارضين، والتخلي عن جواز سفر المملكة المتحدة. وكان سفره إلى نيويورك في أيلول 2014 بجواز سفر عراقي، وكانت زيارته لبريطانيا بعد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى لندن بالجواز العراقي، لكن مع الأسف العديد من كتاب التواصل الاجتماعي، وبعض الصحفيين ممن يفتقرون للقدرة على التحري والدقة، ظلوا يستنكرون وجود رئيس بجنسية أجنبية، فيما أن العديد من المسؤولين ظلوا محتفظين بجنسياتهم الأجنبية دون أي تعرض أو محاولة تشويه لأسباب يدركها القارئ،ضمن توجه للنيل من الشخصيات الكيسة الحريصة على وحدة العراق والباحثة عما يجمع وليس ما يفرق. وهو القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني الذي لقبه زعيم الحزب الراحل طالباني بـ"حكيم الدولة"، كونه لم يكن يسير مع التيار إنما يطرح مواقف نابعة من وعي سياسي جغرافي واجتماعي وجماهيري عميق بعيد الأفق، وهو ما عادة يثير غيض قصيري النظر. لذلك فأن البعض ظنوا أن صمت الرئيس ضعفاً وليس تغاضياً كما أوصى سيدنا الرسول، وأملاً في بناء وعي لاحق لمعنى ما يطرحه وما يصمت عنه.
لم يكن الاستفتاء بحد ذاته مفاجئة للقائد السياسي الكردستاني في الاتحاد الوطني فؤاد معصوم، فهو منذ وقت مبكر اخذ على العديد من القيادات الكردستانية ميلها للتصعيد مع سلطات بغداد الاتحادية، ففي لقاء مع الكتلة النيابية الكردستانية ترأسه السيد مسعود بارزاني، وشارك فيه بصفته رئيس كتلة التحالف الكردستاني في مجلس النواب العراقي الاتحادي للمرة الأخيرة عام 2013 وكنت حاضراً فيه بصفتي إعلامياً عربياً مستشاراً لرئيس كتلة التحالف، بشأن حصة الإقليم من الموازنة العامة ومستحقاته دعا الحضور، في مقدمتهم بالطبع السيد مسعود، إلى ضرورة التركيز على مطالب جماهير كردستان المعيشية والثقافية، والابتعاد عن تبني طروحات الآخرين التي تضعف التحالف الرئيس الذي قامت على أساسه جمهورية العراق الاتحادية التي يمكن أن تكون ديمقراطية مدنية كلما تعمق التحالف على أساس مبادئ ديمقراطية إنسانية واضحة.
وحين طرح موضوع الاستفتاء، لم يأخذ السيد مسعود ولا بقية الأطراف المشاركة في القرار رأي المناضل الكردستاني والشخص الأقرب لزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني في مجال الاستشارات وتنضيج القرارات والإجراءات، لذلك في ص 205 وما قبلها وبعدها، يسجل الرئيس العراقي القيادي الكردستاني د. معصوم مجموعة من الآراء المهمة بشأن العلاقة بين السلطات الاتحادية العراقية وقيادة إقليم كردستان العراقي، فهو رفض الاستفتاء من حيث كونه لم يأت بالتوافق بين السلطتين الاتحادية والكردستانية أولاً ، كونها مخالفة صريحة للدستور، ورفض الاستفتاء ثانياً كونه ينسجم مع الفهم التاريخي والطموح الكردستاني في تتويج النضال بإقامة دولة كردستانية، لكن هذا الطموح يتعارض مع حقائق الجغرافية السياسية، بكل ما يعنيه من خسائر تلحق شعب كردستان في حالة إقامة الدولة وما يترتب عليها من أضرار خطيرة، ابسطها الحصار الاقتصادي، وثالثاً شخص أن فرص التعايش السلمي وبناء الإقليم في ظل دولة العراق هو الأفضل لمصلحة المواطنين في الإقليم بكل ما يوفره من فرص تنمية وعوائد، على أن تحل قضية تشريع قانوني النفط والغاز وتوزيع موارد الدولة وجبايتها. وعملياً فأن موقف الرئيس معصوم من الاستفتاء، الذي كان يدعو بعض قادة الكرد، في مقدمتهم السيد مسعود برزاني وأبنه مسرور وعدد أخر من قادة الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، ضمنهم السيدين كوسرت رسول النائب الأول لزعيم حزب مام جلال كذلك د. برهم صالح، إلى أن يكون بشكل كتابة رسالة إلى مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة مصطفاً بجانب الاستفتاء، وعليه انسحابه من مقره في قصر السلام وإعلان تخليه عن رئاسة دولة العراق الاتحادية واصطفافه مع "إرادة" جماهير الاستفتاء في الانفصال، لكنه حرص على محاولة تطويق الأزمة من خلال التخلي عن الاستفتاء، أو بالأقل إجراؤه ضمن حدود الإقليم المتفق عليها مع السلطات الاتحادية دون "المناطق المتنازع عليها"، وحين جرى الاستفتاء، دوناً عن غالبية القادة السياسيين في الإقليم، نأي الرئيس معصوم بنفسه عن الاستفتاء، بعد أن فشلت كل محاولاته بكل السبل للتراجع عنه تحت باب التأجيل، ضمن مساعيه لحفظ ماء وجه زعامة دعاة الاستفتاء من خلال إحالة موضوع الاستفتاء إلى سلطة الإقليم التشريعية، التي تتولى أرجاء الاستفتاء على أساس ما يقدمه مجلس النواب الاتحادي من وعود بحل المشاكل العالقة،
هذا الموقف أدى إلى انحسار فرص تجديد رئاسة د. معصوم للعراق، التي كانت أطراف عراقية عديدة تؤيد تجديدها، لكنه لم يرغب في أن يكون "خوارجياً" على غالبية الإرادة الكردستانية التي يشكل نواب الحزب الديمقراطي الكردستاني ثقلها الرئيس في ترشيح رئيس العراق عن الكتلة الكردستانية، بعد الاختلاف معهم.
"السنوات الأربع في قصر السلام" بين سطورها الكثير للقارئ المستقصي بدقة لمسار الأحداث، وخلاصتها أن محمد فؤاد معصوم كان رئيساً عراقياً من كردستان، اخلص لقسمه الدستوري فخسر الكثير من رصيده الشخصي الكردستاني في اللعبة السياسية على مشاعر المواطنين والشعارات البراقة.
و لكونه لا يميل للعب الشرس شأن بعض الأطراف الأخرى، قرر الانزواء وتقديم النصيحة لمن يسال ولا بد أن التاريخ سينصفه، سواء خلال نشاطه في المعارضة ضمن قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، أو خلال فترة رئاسة الدولة والمنازعات الخفية وطموحات الإصلاح، التي لن يكون أوفى بحقه سوى الإشارة إلى ما قاله في ص13-14-15 من أن الإصلاح لن يتحقق إلا بأغلبية برلمانية تؤمن بالإصلاح وتعرف السبل الكفيلة بتحقيقه، ولا يكفي لهذا طموح رئيس وزراء مثل السيد العبادي، الذي لم يتحسب لمواقف البرلمان الذي آزره في إجراءاته عندما كانت التظاهرات في أوجها عام 2015 ثم عاد بعدها الأطراف نفسها التي أيدته إلى إبطالها باللجوء للقضاء، حيث يختتم د. معصوم مقدمته في هذا الخصوص متأسفاً "لم يتحسب رئيس مجلس الوزراء لهذا التناقض في مواقف البرلمان والقوى النافذة فيه."
وعلى هامش مذكراته، وقف الرئيس معصوم عند تقييم دور زعيم المؤتمر الوطني د. احمد الجلبي ففي ص237-240 وتحت عنوان "احمد الجلبي...دور وطني ديمقراطي استثنائي" أوضح الكثير عن مواقف الراحل، وكيف انه حرص على جمع شمل المعارضة العراقية، وكيف كان له دور رئيس في وقف الاقتتال بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي في كردستان، وكيف انه كان عضو مجلس الحكم الذي طالما ناكد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر،فيقول " أجد أن الرجل لم يكن معنياً ومكترثاً بالمصالح الشخصية والحزبية قدر انشغاله بالمصير الديمقراطي للعراق، بل غالباً ما قام بالتفريط بما هو شخصي لصالح بلده وشعبه في داخل اجتماعات مجلس الحكم.." وكان يطالب بتسليم السلطة مبكراً للعراقيين.
وهذا في الحقيقة ينطبق على الرئيس معصوم نفسه، ومن قبله مسؤولون عراقيون قياديون مثل الراحلين د. فاضل الجمالي و أ. د. عبد الرحمن البزاز...فمثل هؤلاء الرجال وغيرهم قلة يحتاج إنصافهم إلى دراسة عميقة موضوعية يندر وجودها في مجتمعنا مع الأسف.