تماثيل الأسس.. لا تعرف المشاريع الوهمية
قيس حسين رشيد
حرص حكام سومر ومن بعدهم ملوك أكد وبابل وآشور في بلاد الرافدين على مشاريع الإعمار وتقديم الخدمات لرعيتهم في جميع المدن والعواصم التي زينت خارطة العراق الحضاريه كجزء من واجباتهم الدينيه والدنيوية إرضاءاً لأرادة السماء التي فوضتهم إدارة شؤون الناس بأعتبارهم نواباً عنها في الارض.
ويُعد تشييد المعابد الجديده او اعادة بناء القديم منها أحد اهم مظاهر الإعمار التي يضطلع بها الحكام والملوك وهم يتفاخرون بأدائهم هذا الواجب الهام موثقين ذلك لنا في كثير من المشاهد التي تظهرهم وهم يحملون سلال الطين أو الآجر فضلاً عن النصوص التي تذكر أعمالهم العمرانيه وهي مكتوبه على الرقم الطينيه او صفائح الحجر وحتى على رقائق المعادن . ولعل أشهر من خلّد ذلك هو الملك اورنمو مؤسس سلالة اور الثالثه(2111-2003) قبل الميلاد حيث يظهر في تماثيل وألواح تلك الفتره وهو يحمل على رأسه او أكتافه الأدوات التي قام بواسطتها وضع أسس زقورته المعروفه الان في مدينة اور الاثريه والتي تُعد ابرز شاهد متكامل لبناء الزقورات في العراق القديم.
كان اي عمل عماري في المدينه الرافدينيه ترافقه طقوس دينيه واستقصاءات دقيقه لضمان نجاح المشروع ورضا المعبود بدءاً من تنظيف الموقع الذي يُعد أمراً مقدساً يتطلب تراتيل خاصه يتبعه حفر الأسس والحرص على كشف المخطط الاقدم للبناء حيث يتم تطهير الأساسات القديمه استعداداً للبناء الجديد وتشمل طقوس التطهير تلك ارجاء المدينه كلها . بعد ذلك يقوم الحاكم او الملك بصب اول آجره للمشروع ولابد ان يتم ذلك في يوم حسن وشهر مناسب .
يذكر احد النصوص المسماريه ما فعله الامير گوديا (2144 -2124 ) قبل الميلاد حاكم مدينة لگش الواقعه أطلالها الان في محافظة ذي قار بالاتي:-
(( أعد گوديا الاجره وجلبها الى البيت
ووضعها لتثبيت المخطط الأرضي
وأخذ گوديا الذي بنى البيت
طبة الرأس الخاصه على رأسه
كما لو كانت تاجاً مقدساً
ووضع الأسس ))
كان القالب الذي تُصب به الاجره الاولى للمشروع من الأدوات المقدسه ولابد ان يُصنع من أخشاب معينه ويدهن بالزيت والعسل وعندما يوضع فيه الطين المطلوب للاجره الاولى تقام الصلوات وتقدم الأضحيات ثم يترك ليجف تحت أشعة الشمس لفتره قد تطول بأنتظار اليوم المبارك لبدأ الشروع بالعمل . ولأهمية قالب الاجره الاولى وقدسيته فأنه يحفظ في معبد المدينه الرئيس بعد الانتهاء من تلك الشعيره.
ولأن الرافديني القديم يحب المآثر والخلود فقد كثرت تماثيل الحكام البناة وصنعت لهم تماثيل خاصه بذلك تمثلهم وهم يقومون بإعمار المدن ومعالمها وكانت تلك التماثيل تدفن في أسس البناء ولهذا سُميت بتماثيل الاسس فضلاً عن ذلك كانت هناك ظاهرة كتابات الأسس وهي عباره عن نصوص تذكاريه تكتب على مخاريط من الطين او الاجر وتدفن بعيداً عن أنظار الناس في اركان البناء المنوي تشييده او تحت عتبات المداخل.
تحيلنا تقاليد الإعمار تلك وتماثيل الأسس الرافدينيه الى مهازل عصرنا الحاضر في العراق المعاصر مع ظاهرة المشاريع الوهميه والمتلكئه التي سجلت حضورها في جميع محافظات الوطن حيث اكتفى أصحابها بتسوير الارض مع قطعه تعريفيه بائسه وحجر اساس تداعت آجراته النخره لتكون شاهد إثبات
على سرقاتهم ونهبهم لميزانيات البلاد التي عرفت الاقتصاد والتخطيط وتوزيع الثروات قبل اكثر من خمسة الاف سنه.
لازالت احجار الأسس لمشاريعهم الوهميه ماثله أمامنا فاضحةً لعورات أصحابها (المناضلين) مثلما ضلّت تماثيل الاسس الرافدينيه محفوظه في خزانات ارقى المتاحف العالميه تحكي قصة الحضاره التي بدأت من سومر.. وشــتّان بين الاثنين
{ دكتوراه تاريخ وحضاره