هنا المعقل.. هنا البصرة(أحدى عشر)
التعليم.. منجم الثقافة البصرية المدنية
منقذ داغر
لا يختلف اثنان على أهمية التعليم في تغيير السلوك الانساني. ولأن مقالي ليس مخصصا لمناقشة أهمية التعليم وتاريخه في البصرة ومعقلها،فسأركز كما فعلت في الحلقات الماضية على تحليل دور التعليم في صياغة الشخصية البصرية المدنية كما عرفتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. أكرر مرة أخرى،اني باحث أجتماعي يغوص في تاريخ نشأة البصرة والمعقل لا ليؤرخ ،بل ليوثق العلاقة بين ظروف النشئة المدينية،وشخصية البصري المدنية.
مثل التعليم هماً أساسياً للنخب البصرية في بداية القرن العشرين. لا بل ان أحد الباحثين الانكليز لاحظ ان سوء خدمة التعليم المقدمة لابناء البصرة من السلطات العثمانية،مقارنة ببغداد آنذاك، كان أحد أسباب مطالبة بعض النخب البصرية وفي مقدمتهم عبد اللطيف المنديل الذي تقلد وزارتين في الحكومة العراقية الاولى والثانية،للمندوب البريطاني برسي كوكس بالانفصال عن بغداد. وعلى الرغم من وجود بعض المدارس في البصرة قبل 1923(تاريخ تأسيس الرحمانية كأول مدرسة حكومية في البصرة بعد تأسيس العراق الحديث)،الا انها كانت مدارس اهلية أنشأها وأشرف عليها رجال الدين اليهود والمسيحيين.من اهم وأشهر تلك المدارس كانت مدرسة الرجاء العالي التي اسستها كنيسة امريكية كفرع لمدارسها في الولايات المتحدة. أهم ما ميز هذه المدرسة (الابتدائية والثانوية)التي كان يشرف عليها القس جون فان أيس انها استقطبت كثير من ابناء النخب البصرية من المسلمين وبقية الديانات. كما انها اسست اول مدرسة ابتدائية للبنات في البصرة بعد ذلك بسنوات قليلة حتى بلغ عدد طلاب المدرسة من الذكور 200 والاناث 100 في عام 1921. وكانت المدرسة ترسل الطلاب الذكور المتفوقين للدراسة في كليتها في مشيغان بامريكا! ولادراك النخب البصرية آنذاك لاهمية الاعتماد على انفسهم لتعليم ابنائهم‘فقد دشن البصريون عام 1921 حملة تبرعات واسعة لانشاء مدارس خاصة بعيدا عن بيروقراطية الحكومة في بغداد. هذه الحملة اسفرت عن جمع اكثر من 40000 روبية،وهو مبلغ كبير آنذاك. كما تبرع السيد المنديل بكلف انشاء مدرسة عام 1924 في الزبير اشرف عليها رجل الدين الموريتاني الازهري المعروف محمد أمين الشنقيطي. أما العثمانيون فقد اكتفوا بتأسيس ثمان مدارس ابتدائية طوال فترة حكمهم.
اكتفي بهذا القدر من السرد التاريخي،واقفز لستينات القرن الماضي حيث امضيت دراستي الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في المعقل. قُبلت في الصف الاول الابتدائي في مدرسة الثغر الابتدائية المختلطة،التي كانت تبعد عن بيتنا اقل من 200 متر،عام 1964. كانت المدارس الابتدائية أما مختلطة(وهذا الغالب) او مخصصة لاحد الجنسين فقط. على الرغم من وجود مدارس أهلية ذات سمعة محترمة الا ان معظم العوائل البصرية في المعقل آنذاك بضمنهم كبار الموظفين كانوا لا يجدون سببا لارسال ابنائهم للمدارس الخاصة لان المدارس الحكومسة كانت ذات مستوى لا يختلف عن الاهلية من حيث الجودة. كل الكادر التدريسي كان من المعلمات. بذلك تعلمنا منذ نعومة اضفارنا ظاهمية العمل للمرأة وضرورة أحترام المرأة العاملة. لذلك كان من الغريب لي عندما انتقلت وعائلتي للعيش في محافظة أخرى في الثمانينات بحكم عملي،رؤية الطريقة التي يربى بها الاطفال هناك على اعتبار المرأة هي مخلوق من الدرجة الثانية. لقد كانت الست خديجة عطا مديرة مدرسة الثغر آنذاك شيء كبير أهابه على الرغم من انها صديقة والدتي في نفس الوقت.
واذا كان هناك من شيء مميز في التعليم آنذاك فهو الاهتمام اللا متناهي بالانشطة اللاصفية. لقد كانت المدارس التي علّمتني في البصرة(الثغر الابتدائية،والرشيد المتوسطة،والاعدادية المركزية وأعدادية المعقل) مؤسسات تربوية قبل ان تكون مؤسسات تعليمية.هذا باعتقادي كان سر نجاح التعليم في صقل الشخصية المدنية البصرية،وهو ما ساتطرق له بتفصيل اكثر في الحلقة القادمة.