التنين الأكبر يقدّم وصفة جاهزة لقمع الإنسان
طه جزاع
بغض النظر عن تعدد الآراء ، واختلاف التفسيرات ، وتنوع الاجتهادات ، بخصوص ظهور وباء فيروس كورونا المستجد " كوفيد -19 " وانتشاره في أغلب أرجاء المسكونة على شكل جائحة ، وهي المصيبة والتهلكة والبلية والغبراء ، فإن هذه الداهية التي عمت البشرية ، كانت بمثابة هدية من السماء للحكومات التي توفرت لها وصفة جاهزة ، تفرض بموجبها سلطتها القسرية على مواطنيها ، حظراً ، وحجراً ، وتضييقاً ، وربما مسبة وشتماً وضرباً بالعصي ، مثل الذي حدث في إحدى الدول الآسيوية الكبرى وشاهدناه بمقاطع فديو تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي . إنها وصفة جاهزة لقمع الإنسان ، واستلاب حقوقه الأساسية ، من دون أن يبدي تذمراً ، أو احتجاجاً علنياً ، فالمصلحة العليا تتطلب ذلك ، والأولوية الأولى لسلامته وسلامة المواطنين ، ولا عذر للجائع والمحتاج والفقير الذي يبحث عن لقمة عيش أطفاله على أرصفة الشوارع .
دكتاتورية الدولة
ومن ألاعيب الطبيعة ، وأخباث هذا الفيروس ، إن ظهوره لأول مرة كان في دولة أقل ما يقال في وصفها ، انها دولة شمولية ، غير أن انتشاره كان أكثر ظهوراً في دول أقل شمولية منها ، بل انه اجتاح الدول الغربية " الديموقراطية " وعدداً من الولايات الاميركية ، وفي المقدمة منها ولايتي نيويورك ونيوجيرسي بعنف وقسوة ، وكاد أن يختفي تماماً في دول ديكتاتورية محكومة بالحديد والنار ، ومسورة بأحزمة من أجهزة الأمن والجيش والشرطة والمخابرات ، ووسائل المراقبة الإلكترونية التي تحصي على المواطن أنفاسه ، وعدد دقات قلبه ، فضلاً عن تحركاته وعلاقاته واتصالاته – كوريا الشمالية على سبيل المثال لا الحصر التي لم تظهر فيها حالة واحدة معلنة رسمياً لحد كتابة هذا المقال - ، مما يجعل ، وربما لأول مرة في التاريخ ، مقولة توماس هوبز " إن الدولة يجب أن تكون دكتاتورية ، إذ لن يكفي لكبح أهواء الناس إلا السلطة المطلقة " صالحة تماماً تحت ذريعة حماية المجتمعات ، وفق مقياس كورونا ! . وإذا كانت الحكومات الديكتاتورية في غنى عن وصفة كورونا ، بحكم رسوخ ممارساتها ، وخبرة أجهزتها ، في مراقبة المواطن ، وتقييد حركته وحريته ، فإن الدول الأقل دكتاتورية ، والأنظمة الأكثر ميلاً للديموقراطية ، هي المستفيد الأول من هذه الهبة المجانية ، التي جعلتها تطبق ما تشاء من أساليب تضييق الحريات من دون حرج ، وانتهاك حقوق الانسان من دون خوف أو استنكار أو احتجاج ، فالعذر جاهز : حماية الناس من الوباء ، والحكومات على أصنافها ونظمها وأيديولوجياتها ، تعتقد اعتقاداً جازماً انها أحرص على المواطن من نفسه ، لذلك ذهبت بعيداً في ممارساتها وتعليماتها تحت غطاء الحد من هذه " الجائحة " حتى شاعت نكتة بين الناس تقول إن قتلى ضرب العصي والكيبلات في دولة آسيوية ، بلغ خمسة أضعاف عدد وفيات الوباء فيها !! والنكات كما هو معروف تمثل انعكاساً مضخماً لواقع ملموس ، بهدف السخرية ، وربما التهويل الذي يمكن أن يؤدي إلى تنبيه السلطة ، أو المجتمع ، أو الرأي العام الدولي ، إلى حجم المأساة التي يشهدها ذلك الواقع .
التنين الأكبر
إن الهلع الذي أصاب الدولة التي توصف بأنها أعظم " ديموقراطية " في العالم ، وأقصد الولايات المتحدة الأميركية ، والقلق الذي ظهر على رئيسها ، وهو يعقد مؤتمراً صحفياً يومياً لا يمكن أن يحدث مثله حتى في حالة خوض البلاد لحرب عالمية ثالثة مثل تلك التي تنبأ بها هنري كيسنجر " 97 " عاماً ، قادا إلى تصريحات متسرعة ، ومتناقضة بين الرئيس وادارته من جهة ، وبين الخبراء والأطباء وعلماء الفيروسات ، وشركات صناعة الأدوية واللقاحات ، من جهة أخرى ، بل وأكثر من ذلك ، فان ترامب قاد حملة من الشكوك الخطيرة تجاه الصين ، ومنظمة الصحة العالمية ، التي أصبحت هدفاً رخواً في مؤتمره اليومي ، واتهامه للمنظمة بالانحياز للصين ، وغضها النظر عن ممارسات السلطات الصينية التي لم تمنع من انتشار الوباء ولا تحجيمه ، وعدم تأييدها لإجراءات مبكرة كانت ستقوم بها الولايات المتحدة لمنعه من الوصول إلى أراضيها ، وبلغت الحملة ذروتها بتجميد تمويل المنظمة ، لأنها تتلقى الدعم من أميركا وتساند الصين . بعدها أعلنت الاستخبارات الأميركية انها تحقق في " تخليق الفيروس " بمختبر في مدينة ووهان الصينية عاصمة مقاطعة هوبي ، وليس في سوق رطبة للحوم والأسماك والحيوانات البرية ، وإن استبعدت أن يكون ذلك بهدف الحرب البيولوجية ، مرجحة أن انتشار الفيروس جاء عن طريق الخطأ ، بحسب ما ذكرته وسائل الإعلام الأميركية ، ثم جاء اتهام وزير الدفاع الاميركي مارك إسبر " للحزب الشيوعي الصيني " بتضليل الولايات المتحدة في هذه القضية ، وكذلك اتهام وزير الخارجية مايك بومبيو للحزب الشيوعي بأنه " لم يمنح الأميركيين حق الوصول عندما كنا بحاجة إليه في تلك النقطة الأكثر دقة في البداية " على الرغم من ان إسبر وبومبيو لابد انهما يعلمان علم اليقين ، ان صين القرن الواحد والعشرين ، هي غير صين ماوتسي تونغ والكتاب الأحمر والثورة الثقافية ، وان الحزب الشيوعي الصيني ، صار أكثر انفتاحاً ، ولربما صار أقرب إلى الروح الكونفوشيوسية وقيمها الأخلاقية - التي تعطي الضمير مكانة مهمة للتمييز بين الخير والشر - منه إلى الشيوعية والماركسية اللينينية بطبعتها الماوية ، ولم تعد الثقافة الأميركية بمظاهرها الاستهلاكية والترفيهية مثل مطاعم دجاج الكنتاكي ، وهامبرغر ماكدونالد ، وبناطيل رعاة البقر " الجينز " وأغاني البوب ، غريبة عن المواطن الصيني ، ولا مستهجنة من قبل الأجيال الصينية الجديدة . وفي كتابه " التنين الأكبر " الصادر قبل عشرين عاماً ، وهو مرجعنا هنا في العديد من الأمثلة والمعلومات ، يسرد دانييل بورشتاين كبير مستشاري بنك بلاك ستون جروب ، وهو من أكبر بنوك الاستثمار في نيويورك ، حكايات وحوادث وحقائق وأرقام تعزز رؤيته للصين في القرن الحادي والعشرين ، ورؤية شريكه في تأليف الكتاب أرنيه دي كيزا المستشار لعدد من الشركات الاميركية الناشطة في الصين ، وتؤكد هذه الرؤية على " ان الصين لن تكون رأسمالية أو ديموقراطية حسب ما تتصور لها وتريد منها الولايات المتحدة ، ولن تكون اشتراكية بالمعنى التقليدي ، كما تدعو إلى " اقامة علاقات بناءة بين الصين والولايات المتحدة ، القوتين العظميين في عالم المستقبل " ، وذلك ما تنبأ به الفيلسوف الانكليزي السير برتراند رسل منذ العام 1922 بقوله " ان الصين قادرة بسكانها ومواردها على أن تصبح القوة العظمى في العالم بعد الولايات المتحدة " .
نظام ما بعد كورونا
ولعل مما يمكن ملاحظته ان جائحة كورونا قد وضعت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين على المحك ، فالحرب الإعلامية تزداد استعاراً بينهما ، والصين لم تسكت على الاتهامات الاميركية ، فقد ردَّ وزير خارجيتها وانغ يي على اتهامات واشنطن ، ولاسيما تلك الايحاءات بأن كورونا خرج من معهد علم الفيروسات في مدينة ووهان ، مقرراً " ان إلقاء اللوم على الصين تَهربٌ من المسؤولية وتشتيت لانتباه الجمهور " . وبالعودة إلى كتاب " التنين الأكبر " نجد ان بداية الاتصالات الدبلوماسية المباشرة بين زعيمين اميركيين هما ريتشارد نيكسون وكيسنجر ، ونظيريهما الصينيين ماو تسي تونغ وتشو ان لاي ، كانت في العام 1972 وقد تُوجت بمعاهدة سلام " غير معلنة " تقضي بإنهاء الحرب الطويلة " غير المعلنة " بين البلدين ، وصدور بيان شنغهاي الرسمي الذي يمثل بداية الاعتراف الاميركي بالصين وتطبيع العلاقات بين البلدين . واليوم ، وبعد ما يقرب من نصف قرن على صدور ذلك البيان ، يعود البلدان إلى نقطة الصفر ، أو ما يسمى بالمربع الأول - كما هو متداول بين السياسيين العراقيين – فبعد اربع سنوات من تلك الزيارة توفي تشو ان لاي مطلع العام 1976 لحقه ماو تسي تونغ بعد تسعة اشهر ، وتوفي نيكسون في العام 1994 ولم يبق من شخوص تلك الزيارة ، والمعاهدة غير المعلنة ، وبيان شنغهاي ، غير الدبلوماسي الأميركي الهرم هنري كيسنجر الذي نشر مؤخراً مقالاً في صحيفة وول ستريت قال فيه " ان جائحة كورونا ستغير النظام العالمي للأبد " داعياً فيه زعماء العالم أن لا ينشغلوا بالجهود الضخمة والملحة لمواجهة تفشي الوباء " عن مهمة أخرى ملحة تتمثل في إطلاق مشروعٍ موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا!.
بليون زوج من الملابس الداخلية!
بعد تلك الزيارة التاريخية الأولى من نوعها ، تعاقبت زيارات الرؤساء الأميركان للصين ، وبعضهم زارها أكثر من مرة ، مثل بوش الأبن الذي قام بأربع زيارات ، وكذلك باراك أوباما الذي قام بثلاث زيارات ، وكان يولي اهتماماً خاصاً للعلاقات بين البلدين ، وكان آخرها زيارة الرئيس دونالد ترامب ، وطيرانه مباشرة بعد انتهاء زيارته لكوريا الشمالية ولقائه التاريخي مع كيم جونغ أون ، إلى الصين مصرحاً انه متشوق لرؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ والاجتماع به . غير ان كل هذه الزيارات لم تسفر عن نتائج جادة وحقيقية وملموسة على الرغم من توقيع اتفاقات تجارية بين البلدين ، وذلك يعيدنا إلى أجواء الزيارة الأولى لنيكسون وكيسنجر مستشار الأمن القومي في عهده إلى الصين ، إذ يكتب توماس فريدمان عن تلك الزيارة قائلاً : عندما التقى كيسنجر وشو ان لاي رئيس وزراء الصين ، لأول مرة ، في السبعينيات ، لترتيب العلاقات الاستراتيجية بين البلدين ، اعتاد كيسنجر أن يقول على سبيل الفكاهة ، أن رجال الأعمال الأميركيين لم يفتأوا يضايقونه بأحلامهم في أن يبيعوا " بليون زوج من الملابس الداخلية " للصينيين ... ها ها ها ، ويعلو ضحك رجلي الاستراتيجية الكبيرين وهما جالسان فوق مقعديهما الوثيرين . يالها من دعابة : أميركا تبيع سلعاً للصين الشيوعية ، ولكن الفكاهة الأكبر هي أن تبيع الصين سلعاً لأميركا ، يالها من صورة هزلية مثيرة ! . أغلب الظن أنه لم يكن يخطر على بال كيسنجر يومها ، ان الأميركان سيتلقون بعد ما يقرب من نصف قرن على تلك الزيارة ، سلعة صينية ، سماها ترامب متعمداً بإسم " الفيروس الصيني " شملتهم مثلما شملت أغلب بلدان العالم ، وضاعت أحلام رجال الأعمال الأميركيين في بيع بليون زوج من الملابس الداخلية للصينيين ، مثلما ضاع حلم نائب رئيس الوزراء الصيني في السبعينيات لي لان كنغ الذي قال يوماً : نسمع كثيراً ان الولايات المتحدة تريد الاشتباك مع الصين ، ولكنني لستُ على يقين ما إذا كان الاشتباك يعني حرباً أم يعني ارتباطاً للزواج ؟ إذا أردتم الحرب ضدنا فأحرى بكم أن تحيطونا علماً ، ولكن إذا أردتم الارتباط بنا ، فإننا أيضاً نرحب بذلك ، لأن الفتيات الأميركيات جميلات ولن نرفض أبداً !! . كانتونات محلية أم قرية عالمية ؟
نظام ما بعد كورونا ، لا يشبه ما قبله بالتأكيد ، فبعد أن بلغت العولمة مدياتها الواسعة ، وحولت ثورة الاتصالات التكنولوجية ، وتطور وسائل الاعلام ووسائط الاتصال الجماهيري ، العالم إلى قرية صغيرة ، أو قرية عالمية ، بحسب قول الكندي مارشال ماكلوهان ، ها هو العالم ينكمش على نفسه من جديد ، وتتحول الدول إلى كانتونات محلية منعزلة متقوقعة على نفسها بدافع الخوف ، ومتباعدة في عالم الواقع اجتماعياً ونفسياً وانسانياً ، وبرزت مظاهر جديدة من العداء العنصري تجاه الجنس الآسيوي الأصفر - لاسيما قبل انتشار الوباء إلى بقية أنحاء العالم – ولاحقت سياط وشتائم ولعنات السلطات الشرطوية بعض أفراد الأقليات الدينية في دول متعددة الأجناس والأديان ، وعرضتهم للضرب المبرح والاهانة في أماكن عبادتهم ، تحت ذريعة حمايتهم من الفيروس . وهذه كلها وغيرها مظاهر تدريبية لممارسة دكتاتورية الدولة في دول ديموقراطية ، أو شبه ديموقراطية ، أو تدَّعي الديموقراطية ، فجاء الوباء ليكشف عنها الغطاء ! .
والأمر لن يقتصر على ذلك مطلقاً ، فهناك إجراءات ومظاهر ستصبغ عالم ما بعد كورونا : تشديدات على ضوابط السفر وبرامج الهجرة ، وصرامة في التعامل مع المهاجرين ، وانحسار واضح في السياحة العالمية ، وتردد في منح تأشيرات الدخول وفي الاقامة وشروط التجنيس ، ومضايقات في المنافذ الحدودية بين الدول ، وفقر يشمل شرائح اجتماعية متوسطة الدخل ليزداد عدد الفقراء ، وركود اقتصادي عالمي ، وتقلص الوظائف وفرص العمل ، وبرميل نفط بسعر الماء ، و ... انتهاكات - مسوغة هذه المرة ومقبولة دولياً - لحقوق الانسان ، لحريته وحركته ، لرزقه وأمنه واستقراره في حله وترحاله ، عوضاً عن انعدام الثقة والطمأنينة ، وزرع الخوف والشك والريبة ، بين الإنسان وأخيه الإنسان . أرجو مخلصاً ، أن لا يحدث شيء من ذلك ، وأن يعود عالمنا ، كما كان قبل جائحة كورونا ، ذلك العالَم الذي كنا نشكو منه ونتذمر، ونلعنه زهواً وخيلاءً وبطراً .... وأن يتمكن رجال الأعمال الأميركان ، من بيع " بليون زوج من الملابس الداخلية للصينيين " ، وأن يتزوج الصينيون الفتيات الاميركيات الجميلات ، ويعود فيروس كورونا إلى جوف التنين الأكبر !
{ بروفسور في الفلسفة