حمودي الحارثي.. حكايات وذكريات (1-3)
ذاع صيته عبر دور عبوسي وأتقن النجارة وهو طفل
صباح المندلاوي
على مدى اعوام واعوام تخللتها زيارات ولقاءات وجولات تمخضت عن الكثير من الاحاديث الممتعة والذكريات الجميلة التي من شأنها ان تلقي الضوء على محطات مهمة من حياته وهو الممثل الذي ذاع صيته عبر دور عبوسي في مسلسل (تحت موسى الحلاق) الى جانب الفنان المبدع سليم البصري، فمن هو حمودي الحارثي؟ هو حمودي عبود كاظم جعفر الحارثي من مواليد بغداد 1936، نشأ وترعرع في منطقة الكرخ – باب السيف – كان والده يعمل نجاراً ويتفنن في صنع الابواب والشبابيك والشناشيل وكم من المرات ارسل بشأنه للاستفادة من خبرته ومهاراته في تأهيل الاضرحة والعتبات المقدسة في سامراء او الكاظمية او الحضرة الكيلانية حتى اطلق عليه نجار الائمة. منذ نعومة اظافره وحيث لم يزل في السادسة من عمره تعلم النجارة على يد شقيقه الاكبر غسان، ومع مرور الايام حقق تقدما ملحوظا في هذا الميدان ،يدخل المدرسة الابتدائية .. وحينما يصل الى الصف الرابع يترك الدراسة الصباحية ويكرس الكثير من وقته للعمل في النجارة. يلتحق بالدراسة المسائية، حتى ينهي مرحلة المتوسطة. كان بيتهم في باب السيف ملاصقا لبيت ضياء جعفر الذي اصبح وزيرا في زمن نوري السعيد تيغه واحدة السطح.
جدته لامه اسمها «ماهيه» وبناتها «انعام وطليعة» وطليعة هي والدة الفنان حمودي الحارثي .ويذكر ان جدته بلغت من العمر 124 سنة. ويروي ذات مساء عن شقيقته «زهراء» بأنها تزوجت من رجل عمره 64 عاما وهي صغيرة جدا جلبوا لها صورة رجل يريد ان يتزوج، وتبين ان الصورة لاقارب الرجل، ولم تكشف الامر الا ليلة الزواج. ومع ذلك وخلال اثنا عشر عاماً انجبت منه ستة اولاد كانت شقيقته زهراء خياطة ماهرة، تخيط الارو قماش انكليزي، واحيانا تشتري الياخات فقط لتركبها على دشداشة من خياطتها وحينما تتلف الياخة تستبدلها بأخرى فتبدو الدشداشة وكأنها جديدة. ربيع كرجي رجل يهودي كان يرغب بالسفر الى اسرائيل فباع امتعته وممتلكاته، ومنها كان لديه ماكنة سنجر للخياطة، فعرضها على والد حمودي مع ادواتها ومستلزماتها بخمسة وعشرين دينارا، لم يقبل والده، بل اعطاه خمسون دينارا،لانه لا يأكل حراماً. كذلك جلب له «زوالي» كل زولية «قيمتها 100 دينار وطلب منه سعراً رخيصاً وقال له: اتركها لديك .. متى ما تبيعها، ترسل لي المبلغ او نلتقي في بلد عربي مجاور او اوربي وتسلمني النقود.
يوم الزكريا
تذكر كيف كانوا يتهيأون ليوم الزكريا، بعض النسوة اللواتي لا ينجبن، ينذرن في مثل هذا اليوم، ومنهن من يستجاب لها.تذكر الزردة واللهوم والسمسم والكاستر والمحلبي والحلويات والكرزات والشموع والياس ودعوة المعارف والاهل والاحبة للمشاركة في هذه الطقوس. واذ ينهي دراسته المتوسطة، يتقدم الى معهد الفنون الجميلة وبتشجيع ودعم من وجوه معروفه كانت تتردد على دكان اخيه للنجارة والذي كان عضواً في الحزب الوطني الديمقراطي. اذ ان محله بات ملتقى للساسة والمثقفين. يذكر من بين من نصحوه ان يصقل مواهبه في النحت وبأن له مستقبلاً اذا ما دخل معهد الفنون الجميلة، هاشم جواد وناصر الحاني الذي اصبح فيما بعد وكيل وزير الخارجية او وزير الخارجية. اتجه الى معهد الفنون وهو يحمل رسالة من احد اقاربه معلم الرياضة «محمد علي صدقي» والملقب «علي قزة» حتى ان الرياضة لم تخل من مزاح ومن اجل قبول حمودي في المعهد وعلي القزة كان مدرب نادي الكرخ لكرة السلة، هو من القدامى ومن جماعة خير الله طلفاح واحمد حسن البكر، وعطا صبري، والد عمانوئيل رسام كانوا معلمي الرياضة من خريجي المدرسة الريفية عند وصول حمودي الحارثي الى ساحة البلاط الملكي التي تقابل عمارة معهد الفنون الجميلة في الكسرة ببغداد، صادف ظهور الملك فيصل الثاني من البلاط، فكانت فرصة طيبة ان ينادي الملك او يحاول ان يلفت انتباهه وبالفعل توقف الملك ليرى عما يحتاجه هذا المواطن، فما كان من حمودي ان يجيبه ويبادره بالقول بأنه راغب بالقبول في معهد الفنون وانه يحمل رسالة من احد اقاربه الى عميد المعهد .. فطلب الملك منه الرسالة واطلع عليها.. وكتب كارتا اضافيا يشجع حقي الشبلي على قبول هذا الطالب.. بعد ان تفحص وتأمل المنحوتات التي كان يحملها حمودي والتي قال عنها الملك انها تقليد لاعمال هنري مور، وهي بالفعل تقليد لاعمال هنري مور بعد استعارته لكتاب من المكتبة المركزية وكانت تضم صورا لهذه المنحوتات. هذا اللقاء مع الملك وما تمخض عنه من توصية يسعده كثيرا يطير من الفرح، يدخل معهد الفنون رغم ان وقت التقديم قد انتهى، يخبر البواب بأنه يحمل رسالة من الملك الى عميد المعهد.. البواب سرعان ما ينقل الخبر الى الاستاذ حقي الشلبي فيستقبله على جناح السرعة يأخذ منه الرسالة ويقبلها.. انها بخط الملك فيصل الثاني..يالها من فرحة لا توصف. ينادي على اساتذة النحت .. ويتباهى امامهم بأن الطالب «لقطة نادرة» ويتعرفون عليه وعلى مهاراته..تتعزز ثقته بنفسه. المشكلة ان اهله وعائلته لا يستسيغون دخوله معهد الفنون .. وانها حسب نظرهم لا تخرج الا الشعارين. في البداية يقاوم .. يحاول ان يتحدى.. ولكن بعد مرور ثلاثة اشهر يشعر بالاختناق، يترك الدراسة في المعهد ويسافر الى البصرة ويعاود العمل في النجارة والنحت .. ومن بين ما يظل عالقا في ذاكرته نقش بيت البحراني الذي ذاع صيتهم ومن خلال الجراح المشهور زهير البحراني واحسان البحراني في ايار عام 1958. وقبل ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بشهور يعود الى بغداد، وما ان تستطع شمس الثورة حتى يزور معهد الفنون ، يلقتي الفنان وجيه عبد الغني الذي يعمل مساعدا للاستاذ حقي الشلبي ويطلب منه ان يتم قبوله في قسم التمثيل ومن باب التمرد على عائلته وعلى كل من ينظر الى الفن بنظرة دونية.. يتم له ذلك .. صباحا يدرس التمثيل .. مساءً يدرس النحت.. وخلال دراسته للنحت يتعرف على الكثير من الفنانين .. نذكر منهم محمد مهر الدين، ماهود احمد. يتعرف ايضا في قسم الموسيقى على الفنان سعود الناصري والذي عرف بكونه قائداً طلابياً يسارياً عام 1958.تنشأ علاقة وطيدة بينه وبين جواد سليم وشقيقه نزار ويصبح صديقاً للعائلة. يترك قسم النحت بعد دراسته فيها لمدة عام كامل ويتفرغ كليا للتمثيل والمسرح .. نتاجات الطلبة تأخذ حيزا من اهتمامه ومشاغله .. في السنة الثالثة من دراسته في المعهد يختار مسرحية زنوبيا ملكة تدمر – وبأشراف الفنان وجيه عبد الغني، لانتاجها واخراجها.في نهاية عام 1960 يتخرج من قسم التمثيل في معهد الفنون.
وتضامنا مع الشعب الجزائري في معاركه وتضحياته ضد الاستعمار الفرنسي، يخرج مسرحية وعن طريق الاشراف التربوي من تأليف فرانك ستيرا وقد لعب دور القائد الفرنسي سالان الفنان جعفر حسن – كما شارك كل من الاستاذ ضياء الشكرجي وشقيقه منير الشكرجي في تمثيل هذه المسرحية ايضا.
كما يروي ايضا الفنان حمودي الحارثي بأنه حينما اخرج الاستاذ جاسم العبودي مسرحية «عطيل» لشكسبير ومن تمثيل كريم عواد وقاسم محمد الذي لعب دور ياكو.كلف هو بصنع السيوف والاكسسوارات للمسرحية في محل اخيه للنجارة. ولما انتهينا من انجازه ذلك اقترح عميد المعهد – خالد الجادر – ان نأخذ اثنان منهما الى ابي مناضل – لم اكن اعرف من هو ابو مناضل في حينه – ذهبت واياه .. دخلنا وزارة الدفاع – الانضباط لم يسمحوا لنا بالدخول .. على ما يبدو هناك ضجيج وضوضاء وجو متوتر .. يتناهى الى مسامعنا صوت يرتفع ويقول:(هي اغبر.. راح تضيع الثورة وتضيعنه ).
بعد قليل يسمحون لنا بالدخول.. واذا نحن امام رئيس محكمة الثورة، العقيد فاضل عباس المهداوي والذي كان يحترم كثيراً الدكتور خالد الجادر والذي اخبره بأنه قبل قليل كان في مشاحنة مع الزعيم عبد الكريم قاسم وان قراراته واجراءاته الأخيرة في تقريب القوميين ستضيع الفرصة على الثورة وعلينا.
اي كانت هناك تنبيهات من المهداوي لكن الزعيم لم يأبه لذلك ..ولم يستفد من ملاحظات المقربين منه.
بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ينتسب الحارثي الى اتحاد الشبيبة الديمقراطي وفي احدى لقاءاته يعترف بأنه انتسب الى هذا الاتحاد بتأثير من شقيق الاستاذ رحيم عجينة، ربما كان اسمه خالد يصبح عضوا في المكتب التنفيذي لاتحاد الشبيبه الديمقراطي، وينشط مسرحيا هو والفنانة الرائدة زينب – فخرية عبد الكريم – لتقديم مسرحية في منطقة ابو غريب وتلقى استحساناً كبيراً.
لاحقاً يسافر الى باريس عام 1965 ولغرض الدراسة لم يكن متزوجاً.. يدرس اللغة الفرنسية ولمدة اربعين يوماً ترافقه شابة سويدية اسمها – تانيا – وانا اسميها يقول: «تينه» تشبه الالمان، اتحدث قليلاً بالانكليزية واستطيع تدبير جملة كاملة.
قالت لي صديقتي «تينه»: الى أين أنت ذاهب؟!
قلت لها: الى مقهى راحيل في شارع سان ميشيل وشارع سان جرمن.
ونحن في طريقنا الى المقهى .. واذا بفتاة تنادي عليّ وبأسمي.
ألتفت اليها واذا بها هناء العمري
قلت لها: ماذا تفعلين هنا؟!
قالت: زوجي ابو فارس يتفرج على محلات «البوتيك»
وهنا صاحت على زوجها لكي ينتبه لي:
ابو فارس..ها هو حمودي الحارثي.
اذن هو علي صالح السعدي .. اقتربوا مني .. وسألوني عن وجهتي .. فقلت لهم: أنا لدي موعد مع عبد الملك نوري في المقهى.
استمر في السير معي .. وصلنا المقهى .. كان في المقهى عبد الملك نوري وعباس الدباس وعبد الكريم السوداني ووجوه اخرى لم أعد اتذكرها.
قلت لهم: صدفة التقيت مع علي صالح السعدي.
ثارت ثائرتهم.. واستاءوا من مجيئه حتى ان عبد الملك قال: انا لست مستعداً ان استقبل هذا القرد.
ممثلو الصحف الفرنسية والاوربية تقدموا منا ومنه عندها صرح قائلاً لهم: انا تركت حزب البعث وانا حالياً اؤسس لحزب جديد هو حزب العمال الاشتراكي
ومما قاله في هذا اللقاء ايضاً:جئنا بقطار امريكي .