بغداد تقترب للتتويج عاصمة للسياحة العربية
طالب الأحمد
تخوض مدينة بغداد هذه الأيام غمار التنافس على الظفر بلقب «عاصمة السياحة العربية للعام 2025». ولأن المدن كثيراً ما تشبه النساء في الفتنة والإبهار، يبدو لي حال بغداد بين نظيراتها من مدن العرب كحال الحسناء التي تقف بكل كبرياء في طابور حسناوات ينتظرن تتويج واحدةً منهنّ بإكليل ملكة جمال الكون.
لا يساورني الشك في قدرة بغداد على المنافسة، سيما وأن لها سحرٌ خفيّ إفتتن به حتى غزاتها. فبعد شهور من غزو القوات الأميركية للعراق عام 2003 سألت صحافية أميركية أحد جنود المارينز العائدين من الغزو:
-كيف وجدت بغداد؟
فأجاب :
-إنها مدينة ساحرة.
وإذا كان هذا وصف الغزاة لبغداد، فكيف تبدو إذن في خطابات الشعراء والأدباء والرحالة الذين أغوتهم بسحرها وهاموا حباً بها ؟، ثم كيف يمكن توصيفها سياحيا وهي بذاتها معجم سياحي؟، وكيف نؤرخ لها وهي مثل شهرزاد لاتكاد تنتهي حكاياتها المُلهمة ؟!.
خطيب بغدادي
لقد كُتب الكثير عن جمال بغداد وسحرها منذ أن أصبحت عاصمة الدولة العباسية في عهد أبي جعفر المنصور وحتى يومنا هذا ، وورد في كتاب «تاريخ بغداد « للمؤرخ الخطيب البغدادي أن
بغداد ( لم يكن لها في الدنيا نظير، في جلالة قدرها وسعة اطرافها وازقتها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها، وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها).
ولطالما تغنى فيها الشعراء والأدباء وأرباب الكلام في نصوص ٍ لاتزال تُعد من عيون البلاغة العربية، فيما أسبغ عليها الرحالة والمستشرقون أوصافاً باهرة لم تنلها أي مدينة أخرى في الشرق أو الغرب، فهي في منظورهم «عروس المدن» و»جنة الدنيا» و»البلدة الحسناء» و»عاصمة العواصم» و»مصر العرب» و»حاضرة الدنيا» و»المدينة العظمى» و»سيدة البلاد» و»قمر الزمان».
وقد اختزل الإمام الشافعي (رض) كل هذه المعاني حين سأل رجلاً:
-هل زرت بغداد؟
أجاب: لا
فقال له الشافعي كما لو أنه يُرثي من لم يزر مدينة المدن :
-فأنتَ إذن لم تر الدنيا و لا الناس.
وحتى في عصرنا الراهن يُحار المرء حقاً في إختزال وصف بغداد، أو إنتقاء المفردات التي توائم حسنها، بل وحتى في التعبير عن الشغف بها والحنين إليها، وقد صدق الشاعر الراحل نزار قباني حين عبّر عن هذه الحيرة في القصيدة الشهيرة التي كتبها عند زيارته الأولى لبغداد، حيث يخاطبها مُتيماً:
مدي بساطي، واملئي أكوابي ..وانسي العتاب، فقد نسيت عتابي
عيناكِ يا بغداد منذ طفولتي..شمسان نائمتان في أهدابي
لا تنكري وجهي فأنتِ حبيبتي.. وورود مائدتي، وكأس شرابي
بغداد عشتُ الحُسن في ألوانه ..لكن حُسنكِ لم يكن بحسابي
ماذا سأكتب عنكِ في كتب الهوى..وهواكِ لا يكفيه ألفُ كتابِ
والمعنى ذاته عبّر عنه شاعر العرب الأكبر في العصر الحديث محمد مهدي الجواهري حين خاطب بغداد قائلاً:
يا ربةَ الحسن لا يُحصَى لنَحصِره..وصفٌ فكلُ معانينا كتخمين
والله لو لا ربوعٌ قد ألِفتُ بها..عيشَ الأليفينِ أرجوها وترجوني
لاخترتُها منزلاً لي أستظلُّ به ..عن الجنان وما فيهن يُغنيني
فيما بلغ الشغف والهيام ببغداد لدى شيخها العلامة الدكتور حسين علي محفوظ حد التغني بحروف إسمها، حيث يقول: ( كلما ذكرتُ بغداد اوحت إلي حروفها الخمسة من الأعماق والآفاق ما لا أُعدّده. فتشير الباء إلى البراعة، والغين إلى الغنى، والدال إلى الدعة والألف إلى الإباء، والدال الأخيرة إلى الدراية).
مدينة مدورة
وكنتيجة لهذا الافتنان فقد حملت بغداد على مر العصور ألقاباً عديدة على نحو يندر أن نجد له نظيراً في مدن العالم الأخرى، ومن هذه الألقاب «دار السلام» و»الزوراء» و»الروحاء» و»المدينة المدورة «. على ان اشهر القابها الذي لايبارح مخيال البشر في كل مكان حتى يومنا هذا هو أنها «مدينة ألف ليلة وليلة»، ذلك أن إسمها اقترن بتلك الليالي التي تمتزج فيها الأساطير مع الوقائع على نحو متفرد يعزّ نظيره في تاريخ الأمم والشعوب. وكل من يقرأ «ألف ليلة وليلة» يتوق إلى بغداد ويأخذه الخيال إلى تصور الأماكن العجيبة التي دارت فيها حكايات شهرزاد.
وهذا التماهي في المخيال بين بغداد و»ألف ليلة وليلة» جعل من تاريخ المدينة يبدو سرمدياً أو دائرياً، وجعل من نمط الحياة فيها – من وجهة نظر أنثروبولوجية - ينطوي على سمات رمزية وثيقة الصلة بإرثها الثقافي ، بما في ذلك أزياء الرجال والنساء وأنواع الطعام وأوقات وطريقة تناول الشاي وقضاء الوقت خارج المنزل والتنزه على ضفاف دجلة الذي يشطر قلبها إلى نصفيّن، وأنواع الأسواق والمطاعم التراثية والمقاهي والمنتديات والمجالس الأدبية، حيث يمتزج كل ذلك في نمط من الحياة يسميه أهل العراق ب «التبغدّد»، وهي مفردة لها مدلول ثقافي وتعني إجتماعياً الإرتقاء بمستوى العيش ليكون مُترفاً ومتناغماً مع إيحاءات إسم المدينة.
وفضلاً عن ذلك، لبغداد رأسمال رمزي آخر يتمثل في كثرة مراقد الأئمة والأولياء والمتصوفة الذين دفنوا فيها، ولايزالون في وقتنا الحاضر أكثر تأثيراً من الأحياء في حياة الناس وفي نسج منظومتهم القيمية وتوجيه سلوكهم الديني.
بكل هذه الرمزية الثرّة وبكل ما تثيره في المخيال البشري من توق وشغف يتجاوز عناصر المكان وتقاويم الأزمنة ، تبدو بغداد كما لو أنها حقاً عاصمة الزمان ، ومن باب الإنصاف لها نقول أن «البلدة الحسناء» تستحق أن تُمنح في عامنا الميلادي القادم لقب «عاصمة السياحة العربية»، وما نأمله ألاّ يذهب هذا اللقب الجديد الجميل إلى ضرائر الحسناء.