الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ترنيمة الأنين .. قصة عن الفقر

بواسطة azzaman

ترنيمة الأنين .. قصة عن الفقر

مروة محمد سليم

 

في احد ايام الشتاء العاصف، كانت الثلوج تتساقط بغزارة، والبرد القارس يغطي الوجوه العابرة ويجعل من وجناتِهم (خدودهم) حمراءَ اللونِ كأنها الكرز، أغصانُ الاشجارِ قد ودعت أوراقها وباتت فِراشاً لتستقر عليه الثلوج وتنام هناك إلى إن تذوب، والشمس تكاد إن تختفي فهي طوالَ الوقت مُختبِئة خلفَ الغيوم، في المخبزِ الشهير تنتشر رائحة الفطائر الشهية وأصناف المُعجنات اللذيذة والطازجة، يدخل إلى المخبز  صبي عمره 11 سنة اسمه ماهر ويشتري فطيرة التفاح لكي يتناولها مع أخيه الصغير ذو 5 سنوات إسمه أمير، والذي ينتظره بفارغ الصبر، فهما يتيمان يعيشان في غرفة صغيرة من الطوب الاحمر بسقف معدني عتيق قد أصابه الصدأ، وسطَ الطرقات الخالية المحاطة بالبرد والضباب، يسير ماهر بِخُطى مُسرعة عائداً للمنزل، ملابسه المهترئة البالية لا تمنع عنه سهام الصقيع، يشعر بالحزن على حاله الأليم وبالبرد يخترق قلبه الوحيد، بلا دفء العائلة (بلا دفء الوالدين)، يركضُ مُسرعاً مُخلفاً خلفه  حبات متناثرة من الدموع والحَنين، يصل للمنزل ويتناول مع أمير  فطيرة التفاح الساخنة، ثم يقول أمير: أخي ماهر أنا لا اشعر اني بخير، حرارتي مرتفعة واشعر بالبرد! هل سأموت؟! أخي لا اريد إن أتركك وحدك في هذا العالم الكبير، أريد إن اكون بخير من أجلك، ابتلع ماهر دموعه وكَتمَ حزنه وقال: لا تقلق يا اخي ستكون بخير، غداً سأشتري لك  الدواء وتصبح على ما يرام، أبتسم أمير قائلاً: بعد أيام سيكون عيد ميلادي، أخي لو كُنتَ ستحضر لي هدية، فانا أرغب بصندوق موسيقي صغير، لكي لا أشعر بالوحدة عندما أكون بمفردي في المنزل  واستمع إليه ايضاً إذا كنتُ خائفاً من الوحوش، حينها سأشعر بالأمان، وعده ماهر بإحضار تلك الهدية، وفي الصباح الباكر ذهب ماهر  لمتجر الهدايا فهو يعمل هناك مع صاحب المتجر العجوز، وبعد إن أنتهى من عمله جمع بعض ثمار الصنوبر المتواجدة بين الاشجار التي تبدو نائمة كأنها في سُبات عميق، وبعد إن أضاف إليها بعض الالوان ورشة من البريق واللمعان، وعلق بها خيط سميك، أنها أشياء مصنوعة يدوياً لكنها رغم بساطتها تحمل بداخلها الجمال، كانت الرياح تهب بقوة وكان ماهر يجوب الطرقات يردد بداخله أغنية من ذكريات الماضي السعيد، تلك الاغنية التي كانت تغنيها له أمه، فيبكي ماهر ويبتسم، يبكي لأنه يعيش بلا أحبائه ويبتسم لانهم منحوه الحب الكبير والذكريات الدافئة، وبعد عدة ساعات... باع ماهر كل ما لديه من ثمار الصنوبر المُزينة، بعدها اشترى الدواء لأخيه وعاد للمنزل، يشعر بداخله أنه شخص يُعتمد عليه، يشعر إنه قوي قادر على حماية احبائه ومنحهم ذكريات جميلة وسعيدة، تناول أمير الدواء... ولكن يبدو أن  الدواء  قد وصلَ متأخراً، فلم يحقق النتيجة، ولم يلاحظ الاخوين ذلك، بعد أيام ، كالعادة ذهب ماهر مُسرعاً واخذ يعمل بجد، وظلَ يتجول في الارصفة حتى حلَ الظلام، وبدأت أكثر ليلة باردة في شتاء هذا العام، بدأ الثلج بالتساقط كحبات لؤلؤ بيضاء تتساقط بهدوء من سماء الليل المُظلمة، كان ماهر  سعيداً فلقد تمكن من شراء صندوق موسيقي خشبي، عند فتحه تتحرك غزلان تبدو كأنها تمشي نحو حجر لامع يبدو مثل القمر، وسط هذا المنظر الجميل والهادئ نسمع ترنيمة عذبة كتهويدة أم تغني لطفلها الصغير كي ينام بأمان، وفي هذه الأوقات... يكون امير في المنزل لوحده يحارب شبح الموت... فالمرض قد أشتد وأصبحت الحمى كالبركان وأصبح التنفس صعباً وبالكاد كان يرى ما حوله، كان أمير يبكي وهو يقول: الليلة عيد ميلادي، أريد إن احتفل به مع اخي ماهر، ثم صندوق الموسيقى كان الهدية التي لم يحضرها لي أبي وأمي  لانهما رحلا للسماء في ليلة عاصفة كهذه ...، أخي ماهر انا آسف يبدو أنني سأنام طويلاً، و في هذه الاثناء يكون ماهر هو الوحيد الذي يتجول في البرد الشديد، بحذائه المثقوب، و وشاحِه البالي، يسند نفسه إلى جذع شجرة بعد إن اصابه التعب والصقيع، يشعر إن قلبه ينبض ببطء شديد وكأنه على وشك التوقف! ترتعش ايدي ماهر كأنه رجلٌ عجوز على فراش الموت، يُمسك ماهر بيديه المُرتعشة صندوق الموسيقى، يتخيل وجه أمير ومدى سعادته عندما يحصل على هدية عيد ميلاده،... يقاوم ماهر الألم ويمسك بخيوط الامل التي تبدو في حالته وكأنه يُمسك خيوط العنكبوت الدقيقة التي تنقطع عند هبوب الرياح، يتمسك ماهر بالأمل الزَائف ويسير بخُطى ثقيلة نحو المنزل، على تلك البحيرة الجليدية يسقط مُودِعاً العالم، و ينزلق الصندوق الخشبي من يده الباردة التي بَدى اللون الازرق عليها كدلالة على روحٌ خرجت من هذا الجسد الصغير والهَزيل، ويُفتح الصندوق لتصدر عنه ترنيمة الأنين... فقبل قليل كانت الترنيمة مندمجة مع أنين ماهر عند مُفارقته للحياة، وأصبحت دموعه بسرعة حبات تبدو كالجواهر الجامدة، مات ماهر في حضن بحيرة الجليد وحيداً بارداً كما كان دوماً، مات الاخوان وكل منهما عندَ لحظة موته كان وحيداً يبكي وليس هناك من يمسح دموعه في ذلك الشتاء العاصف...، أستمرت الرياح العاتية بالهبوب كأنها تقوم بالعزاء على مشهد الموت الأليم، ثم بعد لحظات كانت العائلة معاً في السماء: الاب، الام، ماهر، وامير، لقد أجتمعت الارواح البريئة في أرضِ السَحاب وأمسكوا بأيدي بعضهم مُتجهين نحو نور ساطع، وكانت الابتسامة هي آخر تعبير لوجوههم، ثم إختفَوا...


مشاهدات 57
الكاتب مروة محمد سليم
أضيف 2024/11/23 - 1:25 AM
آخر تحديث 2024/11/23 - 5:41 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 108 الشهر 9579 الكلي 10052723
الوقت الآن
السبت 2024/11/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير