نكتب.. لكن أين المشكلة ؟
عبدالمنعم الاعسم
اضطر ابو حيان التوحيدي الى احراق ما كتب، في ايام قال عنها «انها نحسة» وجاء في كتابه «المقابسات» شكوى الحال من مهنة الكتابة بقوله: «الى متى الكسيرة اليابسة والبُقيلة الذاوية، والقميص المرقع.. وقد والله بُح الحلق وتغيُر الخلق» واورد انه احرق كتبه بيده قائلا «ما ظننت بان الدنيا ونكدها تبلغ من انسان ما تبلغ مني».
معلم الفراهيدي الاديب البصري الشهير «ابو العلاء» أقدم على طمر ما كتبه وألّفه في باطن الارض ولم يعثر عليها بعد موته، متذرعا، في ساعة يأس «بلاجدوى العلم في زحزحة الجهل» فيما القى داود الطائي الملقب بتاج الامة بكتبه الى امواج البحر مخاطبا اياها :»لا فائدة ترتجى.. فقد اعشى بصر القلب بصر العين». لكن الاديب المراكشي يوسف ابن اسباط حمل كتبه الزاخرة بالمواجيز العلمية والاكتشافات والفلسفة الى حفرة في جبل عصي على الوصول، واتلفها هناك وهو يردد القول: «دلنا العلم في الاول، ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه» اما «سفيان الثوري» الذي هجا الاستبداد الاموي وحاصره المستبدون فقد اكتفى بتقطيع اوصال ما يزيد على الف جزء من مؤلفاته، ووقف على رابية ليذرو القصاصات رياحا عاصفة، وعثروا عليه وهو يردد: «ليت يدي قطعت من هنا، ومن هنا، ولم اكتب حرفا».
والسؤال التفصيلي هو ما الذي يضرنا للكتابة حين لا نجد من يقرأ، او من يعطي لما نكتب حقه؟.
سؤال ، كما ترون مركّب، وإشكالي، وله ما يبرره، ومطروح على سطح اهتمامات العصر والكتاب والدراسات المختلفة، فقد اصبحت الكتابة مشكلة بحد ذاتها، لانها تحاول ان تجد مكانها في مجرى النشاط الانساني، المعولم، والبالغ التعقيد، حتى المفهوم التقليدي الذي يذهب الى ان الكتابة دخلت في متطلبات الحياة اصبح بحاجة الى مراجعة في ظل ظهور اشكال جديدة من التعبير تنافس الكتابة في التعامل مع تلك المتطلبات.
مسؤولية باهظة
ومن زاوية معينة يبدو ان الكتابة اصبحت مسؤولية باهظة الكلفة بالنسبة للكاتب، فلم تعد هي الاداة الوحيدة المتاحة لتصويب مسار الحياة، او خلاصا للكاتب مما يحيطه من اسئلة، أو وقاية مما يداهمه من اخطار، او حلّا لاشكاليات التعامل مع الواقع في وقت يزداد هذا الواقع تعقيدا.
فعندما حُرمت فيرجينا وولف من الكتابة واجبرت على العودة إلى مصحة الأمراض العقلية بدعوى عدم انسجامها مع المجتمع لم تجد بدًا من الانتحار، لكن
الكاتب البريطاني الشهير «سومرست موم» في كتابه (الخلاصة) يتحدث عن التزامه بخيار الكتابة في زمن المسؤولية التي تحولت الى معنى التضحية من اجل قيم الحياة، وسجل «لقد وجدت نفسي على صفحات الورق، فمن يستطيع ان يرفعني عنها».
وسئل الأديب والكاتب أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب هذا السؤال: لماذا تكتب؟ فقال: أكتب لأنني غاضب منكم جميعا.. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها».
اما ارت بوكوالت، اشهر كاتب امريكي ساخر فقد كان يقول «على الكاتب ان يرفع نهايات بنطاله عندما يريد ان يخوض في السياسة» لكن العلم المدرسي للسياسة يقول ان كتّاب هذا الميدان اقل انشغالا بذواتهم، لأن السياسة نفسها، خلاف أجناس النشاطات الاخرى، مطبخا للظواهر والاحداث والتحولات والاسئلة التي تجري خارج الذات والرغبات والمشيئات وهي تعني البشرية والمجتمعات والطبقات، وان النص هنا يظهر كما لو انه مكتوب بعقل الجماعة، او مكتوب الى الجماعة، فيما النص الادبي يبقى رهن مبدعه وشكل تفكير شخص واحد، وعلى نحو تقريبي، يمكن تشبيه كاتب النص الادبي بالشخص الذي يدخل صالة السينما ولا يهمه غير حركة بطل الفيلم على الشاشة، وإنشاءات تلك الحركة في نفسه، فيما الكاتب السياسي يعاين تاثير الفيلم على جمهور المشاهدين واشكال التفاعل التي تظهر في مجرى العرض داخل القاعة، ثم خارجها.
واحسب ان العصر لم يغير من حقيقة ان الكتابة عملية رصد للافكار والظاهرات وإنشائها في عبارات سليمة المبنى والمعنى، والحال، فان الكتابة، بصرف النظر عن التباسات الوظيفة التي تضطلع بها، تبقى في جميع الاحوال، مسؤولية تتجلى في ان يقف الكاتب في منطقة الشجاعة ليقول كلمته، فلم يعترف موسوليني بهزيمته إلا عندما قرأ ما كتبه شوستر الكردينال ما نصّه: «حان الوقت لاتخاذ القرار».