الحسين .. برأي إبن خلدون والوردي ورأينا
قاسم حسين صالح
في كتابه (منطق ابن خلدون ) يرد ذكر الأمام الحسين والأشكاليات بخصوص ثورته في تسع صفحات، يبدأها الدكتور علي الوردي بالاشارة الى ما حدث بين الفرق الاسلامية من جدال عنيف..حيث تعتمد كل فرقة في رأيها على آيات قرآنية او أحاديث نبوية تجعلها مقدمات لأقيستها المنطقية،فيما تلجأ الفرق الاخرى الى آيات وأحاديث اخرى، فتكون الحرب بينهما سجالا لا غالب فيها ولا مغلوب.
ويضرب الوردي مثلا على هذا الجدل..مقتل الحسين،حيث ذهب قوم الى القول بأن الحسين كان مخطئا في ثورته على يزيد، وان يزيد كان محّقا في قتله..مستندين في رأيهم على الحديث النبوي القائل : « من أراد ان يفرّق أمر هذه الامة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان». فيما يرى الفريق الاخر..العكس، مستندين في رأيهم الى حديث آخر هو :» سيد الشهداء عند الله عمي حمزة ورجل خرج على امام جائر بأمره وينهاه فيقتله» (ص 36).
ويذهب الوردي الى القول بان كلا الرأيين صحيحا وفق القياس المنطقي،استنادا على صحة المقدمة التي استنبط منها. فالرأي الاول يمكن وضعه بهذه الصورة:
1. من يفرّق الامّة يجب قتله.... (مقدمة كبرى)
2.الحسين فرّق الأمة................(مقدمة صغرى)
3. اذن الحسين يجب قتله...........(نتيجة).
والرأي الثاني يمكن وضعه بهذه الصورة:
1.من يخرج على امام جائر ويقتل فهو سيد الشهداء..(مقدمة كبرى)
2. الحسين خرج على امام جائر وقتله...(مقدمة صغرى)
3.اذن الحسين سيد الشهداء ..(نتيجة). ( ص 37)
ويتساءل الوردي: كيف يمكن للنبيّ ان ينطق بمثل هذين الحديثين المتناقضين؟. ويجيب بأننا لا نستبعد ان ينطق النبيّ بهما في وقتين مختلفين حسب مقتضيات الظروف،فهو قد ينصح امتّه تارة بأن تكون كتلة واحدة غير متفرقة ازاء اعدائها،وقد ينصحها تارة أخرى بأن لا تخضع للامام الجائر (ص 37)، وهو تخريج لا يبدو مقنعا لكثيرين.ومن جميل ما قاله الوردي :» يبكي احدهم على الحسين في مجلس التعزية ثم لا يبالي بعد ذلك ان يسير في الناس سيرة يزيد! «.. ما يعني ان الوردي يقرّ بفساد يزيد وليس كما يتهمه البعض بأنه ما كان صريحا في موقفه من ثورة الحسين.
يبدأ ابن خلدون حديثه عن الحسين وثورته بالاطلاع على ما كتبه من سبقوه، لسببين: تاريخي ليوثّقه وشخصي لحساسية الموضوع، يستهلها برأي القاضي ابو بكر بن العربي من فقهاء الأندلس الذي دافع بحماسة عن بني أمية،وقال ما نصه «ان الحسين قتل بشرع النبي جدّه» اذ ان النبيّ قال في حديث له كما يرويه ابن العربي :» انه ستكون هنات وهنات ،فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان». ومع ان ابن خلدون تأثر كثيرا بفلسفة ابن العربي الا انه انتقد رأيه في خروج الحسين واصفا اياه بأنه « غلط حملته عليه الغفلة عن اشراط الأمام العادل ،ومن أعدل من الحسين في زمانه في امامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!» ( ص 2006).
تمثال بن خلدون – تونس – شارع بو رقيبة ولا تظن ان ابن خلدون منحازا للأمام الحسين او له رأي واضح في ثورته. نعم انه غلّط ابن العربي في رأيه « الحسين قتل بسيف جده» واعلن في مقدمته « ان الحسين رأى ان الخروج على يزيد متعين من اجل فسقه لا سيما من له قدرة عليه» (ص 263)،لكنه ما كان له رأي واضح وصريح وثابت عن ثورة الحسين، وأحد اسبابه انه كان متأثرا بما كتبه مفكرو وقضاة الأندلس الذين غلطّوا الحسين في ثورته،لأن الأندلس كانت تحت حكم الأمويين مئات السنين ومنهم كانوا يتقاضون المكافئات ويتولون المناصب والرئاسات.
ويرى الوردي، واطروحته كانت عن ابن خلدون قدمها عام 1950 بجامعة تكساس :»ان خلاصة رأي ابن خلدون هي ان الحسين لم يغلط في ثورته على يزيد من الناحية الشرعية على الرغم من عدم اهتمامه بمبدأ العصبية، وانه كان في ذلك مجتهدا مأجورا « (ص 263). فيما هناك تناقض في رأي ابن خلدون بقوله « والحسين فيها شهيد مثاب،وهو على حق واجتهاد،والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً واجتهاد»..فيساوي بين القاتل والمقتول! غير ان هناك رواية يرويها ابن حجر العسقلاني تشير الى ان ابن خلدون كان في أول امره عندما كتب النسخة الاولى من مقدمته، يؤيد القاضي ابن العربي في قوله بأن الحسين قتل بسيف جده،مما اغاظ شيخه الحافظ ابو الحسن بن ابي بكر الذي كان يلعنه ويبكي.
ثورات فاشلة
ويتساءل الوردي قائلا :»ان صحت هذه الرواية فهي دليل على ان ابن خلدون كان له في اول الامر رأي في ثورة الحسين يشبه رأيه في جميع الثورات الفاشلة، ولكنه تراجع عن هذا الرأي بعدئذ خوفا من الناس فمحاه من مقدمته ووضع مكانه الرأي الذي اسلفنا ذكره «(ص 264)
ولدى مراجعتنا لما كتب عن هذا الموضوع تبين لنا صحة ما استنتجه الوردي. والارجح ان ابن خلدون كان لا يملك رأيا صريحا في ثورة الحسين،بل انه كان حائرا فيما يكتب.وهناك ما يؤكد ان ابن خلدون ترك صفحات بيضاء في مقدمته عن الحسين ليملأها فيما بعد..ولم يملأها!
الحسين..برأينا
لا يعنيني هنا رأي رجال الدين من الشيعة والسنّة في (ثورة) الحسين الذين يمثلون اليمين بالمفهوم الأيديولوجي،ولا رأي المفكرين العرب والأوربيين الذين يمثلون الموقف اليساري،ولا (المقالات) التي تملأ صفحات العديد من مواقع التواصل الأجتماعي ويغلب عليها الأنفعال والعاطفة. ما يعنيني هو التحليل السيكولوجي لمجريات ما حدث الذي جرى اغفاله فيما هو يكشف حقيقة كانت غائبة من الف سنة!.
نبدأ تحليلنا السيكولوجي لشخصية الأمام الحسين، بأنها وضعت الأحتمال الأكبر في (الأنتصار) بمعركته ضد يزيد ابن معاوية. ولهذا اصطحب معه عائلته وأطفاله وخرج من مكة متوجها الى العراق رغم ان والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص ارسل وفدا الى الحسين ليثنيه عن عزمه..فرفض ،لأنه كان قد تعبأ سيكولوجيا بالنصر!. ولو أنه وضع احتمال ان يخسر المعركة ولو بنسبة (50%) فلما أخذ معه عائلته،اذ ليس من المعقول ان يأخذ مقاتل،ثائر..نساء عائلته واطفاله ويعلم أنه سيقتل، فكيف بالحسين ان يضحي بأعز ناسه،والحريص على ان يكون هناك امتداد بشري (ذكوري) له ولأبيه!.
والمعبأ سيكولوجيا بالنصر،لا يأخذ بأية نصيحة تخالف يقينه،وهكذا كانت شخصية الأمام الحسين. ففي الطريق التقاه الشاعر الفرزدق ونصحه ان يعود فردّ الحسين بيقين الواثق من النصر الذي شحنه به مسلم ابن عقيل: كيف وهذه كتبهم معي ،فأجابه الفرزدق : يخذلونك فلا تذهب ،فانك تأتي قوما قلوبهم معك وأيديهم عليك ( قلوبهم معك وسيوفهم عليك). وقول ابن الزبير له: أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك !.بل انه لم يأخذ بنصائح رجال القبائل الذين مرّ بهم واوضحوا له الخطر الذي يقدم عليه..لأنه كان مشحونا سيكولوجيا بعدد هائل من اسماء المبايعين له، وقيل انه اخرج خرجين مملوئين بالكتب التي تطلب منه القدوم الى الكعبة!
ما كان الحسين يحسب ان يزيد الذي ورث عن ابيه معاويه بعض دهائه سيعمل المشروع وغير المشروع من التدابير الأمنية التي تضمن له البقاء في السلطة، والأدق..ان تعبئته السيكولوجية بالنصر جعلته يتجاهل ذلك. وكان أول اجراء أتخذه يزيد أنه كتب الى ابن زياد والي الكوفة يحذّره ويأمره ليس فقط بأن يحكم سيطرته على اهل الكوفة، بل وأن يجزل العطاء للمقاتلين،ويقطع الطرق التي تربط الكوفة بمدن الوسط والجنوب حيث جموع انصاره. وكانت اول رسالة ليزيد لأنصار الحسين في مدن العراق أن يقبض على مبعوث الحسين الى القادسية( قيس بن مسهر) ويرسل مخفورا الى ابن زياد ..فيقتله، تبعه قتل مسلم بن عقيل ورميه من اعلى القصر،الذي كان قد عزز عند الحسين سيكولوجيا الانتصار بأن اهل الكوفة معه.
· هل تورط الحسين في خروجه من مكة الى العراق للأطاحة بحكم يزيد بن معاوية؟
الجواب: نعم..في تورطه الخاص باصطحاب نساء عائلته وأطفاله حصرا،ولكنه لم يتورط في انتصاره للمبدأ..أعني الوقوف بوجه الحاكم الظالم الجائر المستبد.
وسيكولوجيا،كان الموقف الأقسى على الحسين لحظة ادرك انه سيقتل حتما،قد وضعه امام خيارين:اما ان يبايع يزيد وينجو هو وعائلته،واما ان يكون صاحب مبدأ ..يضحي بنفسه وعائلته واصحابه.
ولكي يبريء ذمته ولا يشعر سيكولوجيا بالذنب، فانه طلب من قادة جيش يزيد ان يرجع هو ومن معه من حيث اتوا، أو ان يدعوا اهله واطفاله يعودون..فرفضوا..الا بشرط البيعة ليزيد. وهنا كان (المبدأ) ،مستحضرا مواقف أبيه الأمام علي الذي يمثل سلطة الحق،وأنفة وكبرياء معبأ بسيكولوجيا من يرى الأستشهاد يبقيه حيا.
الحسين..رمز انساني
يزخر التاريخ بالكثير من الثورات ضد الظلم وطغيان السلطة، لكن ثورة الأمام الحسين تنفرد بأنها قدمت للعالم دروسا في التضحية والفداء من خلال تضحية الثائر بأعز ناسه،ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيّته، وأدخاله الإسلام والمسلمين إلى سجل التاريخ ورفع صيتهما.
ولقد وجدنا في قرائتنا لما كتب عربيا وعالميا،ان ثورة الإمام الحسين تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر اسبابها،والشائعة منها تمنحها هوية سياسية او إسلامية فيما الهوية الحقيقية لها انها انموذج استثنائي للأقتداء بثورة اخلاقية.فلو كانت سياسية فان هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة فيما الحسين كان يعرف انه مقتول. ولو كانت اسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير اسلاميين ومفكرون اوربيون.
وما يدهشك ان ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسية، فيما ثورة الحسين تتجدد رغم ان القائم بها كان رجلاً واحداً،وأنه مضى عليها اكثر من الف عام..والسبب هو ان موت الضمائر وتهرؤ الأخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين: حكّام يستبدون بالسلطة والثروة،وجماهير مغلوب على أمرها..فتغدو القضية صراعاً أزلياً لا يحدها زمان ولا مكان،ولا صنف من الحكّام او الشعوب.ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفاً متفرداً ورمزا لقضية إنسانية مطلقة، مادامت هنالك سلطة فيها: حاكم ومحكوم ، وظالم ومظلوم ، وحق وباطل..ليس على صعيد الدول الاسلامية فقط ،بل والعالم ايضا!
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية