المناصب الإدارية بين الكفاءة والأقارب
محمد عبيد حمادي
تعد المناصب الإدارية جزءًا حيويًا من الهيكل التنظيمي في أي مؤسسة، حيث يتمثل دورها في إدارة الموارد البشرية والمادية وتنظيم العمل لتحقيق الأهداف المرجوة. ولكن، في بعض الأحيان، تُثار التساؤلات حول مدى نزاهة عملية اختيار الأشخاص الذين يشغلون هذه المناصب، خاصة عندما يتعلق الأمر بتعيين الأقارب. فهل هي مسألة كفاءة واستحقاق، أم تداخل بين السلطة العائلية والمحسوبية؟
ظاهرة المحسوبية: هل هي جديدة؟
لا تُعد المحسوبية، أو “النيبويتزم” كما يطلق عليها في الأدبيات الغربية، ظاهرة حديثة، بل تعود جذورها إلى العصور القديمة. على مر التاريخ، كان الحكام والملوك يقومون بتعيين أفراد من أسرهم في المناصب الحساسة والمهمة، لضمان الولاء والتحكم في مراكز القوى. حتى في القرون الوسطى، كان الباباوات يعينون أقاربهم في مناصب عليا داخل الكنيسة لضمان استمرارية نفوذهم.
ومع تطور المجتمعات والدول، تحولت هذه الظاهرة إلى ما يُعرف اليوم بالمحسوبية، حيث يتم تفضيل الأقارب في التعيين بالمناصب الإدارية، على حساب الكفاءات المهنية الأخرى. في بعض البلدان، تأخذ هذه الظاهرة شكلاً أكثر تنظيماً، حيث يتم توزيع المناصب الرفيعة في الشركات والمؤسسات الحكومية على أفراد العائلة بشكل منظم ومنهجي.
يتمثل التحدي الأكبر في هذه الظاهرة في كيفية التوفيق بين ضرورة تعيين أشخاص ذوي كفاءة وإمكانيات عالية وبين ضمان عدم تغليب المحسوبية على الكفاءة. في العديد من الحالات، قد يكون الفرد من العائلة يمتلك المهارات والمؤهلات التي تجعله مناسباً للمنصب، ولكن عندما يُنظر إلى تعيينه من منظور العلاقات العائلية، فإن ذلك قد يثير الشكوك حول دوافع القرار ومدى شفافيته.
هناك من يجادل بأن تعيين الأقارب قد لا يكون بالضرورة سيئاً، خاصة إذا كانت العلاقة العائلية تعزز التعاون والثقة داخل المؤسسة. في بعض الشركات العائلية، يعتمد النجاح بشكل كبير على التعاون بين أفراد الأسرة الذين يتشاركون نفس الأهداف والمصالح. ومع ذلك، يظل هذا الوضع استثناءً وليس قاعدة.
عندما تصبح المحسوبية هي القاعدة بدلاً من الاستثناء، تنشأ عدة مشاكل تؤثر سلباً على أداء المؤسسات والمجتمع بشكل عام.
تعيين الاقارب
1.تراجع الكفاءة والإنتاجية: عندما يُعين الأقارب في المناصب الإدارية بناءً على العلاقة العائلية بدلاً من الكفاءة، ينخفض مستوى الأداء العام للمؤسسة. الموظفون قد يفقدون الحافز للعمل بجدية، حيث يرون أن الترقية أو التعيين ليس مرتبطاً بالإنجازات أو الكفاءة، بل بالصلة العائلية.
2.زيادة الفساد: المحسوبية غالباً ما تكون بيئة خصبة لانتشار الفساد. فالأقارب الذين يشغلون مناصب عليا قد يشعرون بالأمان من المساءلة، مما قد يؤدي إلى تجاوزات إدارية ومالية.
3.تفكيك الثقة بين الموظفين: عندما يشعر الموظفون بأن التعيينات تعتمد على المحسوبية، فإن ذلك يؤدي إلى تآكل الثقة بين الموظفين والإدارة. يمكن أن يؤدي هذا إلى بيئة عمل غير صحية، حيث يسود الشعور بالظلم وانعدام العدالة.
4.تقويض العدالة الاجتماعية: تؤدي المحسوبية إلى تراجع مبدأ تكافؤ الفرص في المجتمع، حيث يشعر الأفراد الذين لا تربطهم علاقات عائلية قوية بالسلطة أنهم مستبعدون من التنافس العادل على المناصب.
في مواجهة هذه الظاهرة، قامت العديد من الدول بوضع تشريعات وقوانين تهدف إلى الحد من المحسوبية في المناصب الإدارية. على سبيل المثال، في بعض الدول الغربية، يُطلب من الشركات والمؤسسات الحكومية أن تتبع إجراءات توظيف شفافة تعتمد على معايير موضوعية مثل المهارات والخبرات.
في الولايات المتحدة، تم تقييد التعيينات القائمة على المحسوبية في المناصب الحكومية منذ قانون الإصلاح المدني لعام 1883، الذي جاء بعد فضيحة “نظام الغنائم” التي أثارت جدلاً كبيراً في البلاد. اليوم، تتطلب المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء عمليات توظيف شفافة تخضع لمراجعة دقيقة لضمان عدم تغليب العلاقات الشخصية على الكفاءة.
مكافحة فساد
وفي العالم العربي، لا تزال المحسوبية تمثل تحدياً كبيراً. فعلى الرغم من وجود بعض القوانين التي تهدف إلى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، إلا أن تطبيقها قد يواجه عقبات تتعلق بالثقافة السائدة والتداخل بين المصالح العائلية والسياسية.
مستقبل المحسوبية في العالم المعاصر
مع التوجه نحو الاقتصاد الرقمي وتطور التكنولوجيا، أصبحت الكفاءة والإبداع هما العاملان الرئيسيان في تحقيق النجاح المؤسسي. لذا، فإن المؤسسات التي تستمر في اعتماد المحسوبية كأسلوب للتعيين قد تجد نفسها في مواجهة تحديات كبيرة على المدى الطويل. في بيئة تتطلب الابتكار والقدرة على التكيف مع التغيرات السريعة، تصبح الكفاءة والتخصص ضرورة لا غنى عنها.
على الجانب الآخر، من المهم أن يتم تعزيز ثقافة التعيين العادل داخل المؤسسات. من خلال تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة، يمكن تحقيق بيئة عمل تعزز الكفاءة والعدالة، وتساهم في تحقيق النمو المستدام للمؤسسات والمجتمعات. تبقى المناصب الإدارية للأقارب موضوعاً شائكاً يحمل في طياته العديد من التحديات. وبينما قد يكون للأقارب أحياناً الكفاءة المطلوبة لشغل المناصب الإدارية، إلا أن هذه التعيينات قد تثير شكوكاً حول النزاهة والشفافية. في النهاية، فإن تحقيق التوازن بين الكفاءة والمساواة في التعيينات يتطلب جهوداً جماعية من الحكومات والمؤسسات والمجتمعات لضمان مستقبل أفضل يقوم على أساس العدل والمساواة.