الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عالما الأدب والسياسة.. بين الأثر والتأثير


عالما الأدب والسياسة.. بين الأثر والتأثير

عصام البرّام

 

يشكّل الأدب دوراً عميقاً ومؤثراً في صناعة السياسة، ويتجاوز كونه مجرد تعبير فني أو ترفيهي، ليصبح وسيلة فعالة في تشكيل الوعي، وبناء الخطاب السياسي، وحتى تحفيز التغيير الإجتماعي، فهنالك أدوارعدة يلعبها الأدب في هذا السياق، يقف في مقدمتها، تشكيل الوعي الجمعي. فالأدب؛ سواء كان رواية أو قصة قصيرة أو شعراً أو حتى مسرحاً، يمكنه أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي وينقله بعمق إنساني، مما يساعد على تشكيل وعي الناس الجمعي تجاه قضايا معينة. فمن خلال القصص، وفنون الأدب الأخرى، يعيش القاريء تجارب الآخرين، مما يجعله أكثر فهماً وتعاطفاً، وبالتالي أكثر إستعداداً للإنخراط في القضايا السياسية والاجتماعية.

إن كثيراً من الكتّاب إستخدموا الأدب كمنصة لمواجهة الظلم وكشف الفساد والنفاق السياسي. إذ يمكنه أن يتسلل الى المناطق التي تعجز عنها الصحافة المباشرة للوصول اليها؛ وذلك من خلال الرمز والسخرية واللغة الإبداعية. أيّ بمعنى أنه يشكّل نقداً للسلطة وكشف ما تخفي من أمور الفساد وغيرها.

صناعة الرموز الوطنية

كما أستطاع الأدب أن يصنع رموزاً وطنية وثقافية تكون جزءاً من الهوية السياسية للدولة. فعلى سبيل المثال، شخصيات أو أبطال أدبية مثل (دون كيشوت) في الأدب الإسباني أو (إنكيدو) في الأدب السومري العراقي القديم بملحمة كلكامش، يمكن أن تتحول الى رموز تعبّر عن قيم معينة تتبناها الدولة أو المعارضة للتعبير عن شيء ما. وبذلك فهية من صناعة الأدب. فالأدب أحياناً يؤثر في السياسات بشكل مباشر، حين يتبناه السياسيون كأداة للدعاية أو التعبئة، أو حين يثير ضجة مجتمعية تدفع الحكومات الى إعادة النظر في قراراتها وطبيعة صياغتها، وأحياناً له دور في التأثير بآتخاذ القرار ذاته.

لقد شكل الأدب مصدر إلهام للثورات، فالعديد من الحركات الثورية إستلهمت قوتها من كتابات أدبية قديمة أو معاصرة، سواء من خلال القصائد الثورية أو الروايات التي تعزز قيم الحرية والكرامة والمقاومة، فالأدباء الذين رافقوا الثورة الفرنسية والثورة الروسية أو حركات التحرر العالم العربي والعالم الثالث، كانوا مؤثرين، وشكلوا حافزاً للجماهير، ونضج أفكارها، ومما لا شك فيه، فالأدب يسجل اللحظات السياسية الكبرى، في حفظ التأريخ السياسي، بطرق إنسانية وشخصية أكثر من السرد الرسمي، ويتيح للأجيال القادمة فهماً أعمق لتلك اللحظات. إذ يُعد الأدب مرآة الشعوب ولسان حالها، لكنه يتجاوز في كثير من الأحيان مجرد التوثيق أو التعبير الجمالي، ليغدو قوة فاعلة في صناعة السياسة وتوجيهها. وذلك بما يمتلكه من قدرة على التأثير في العاطفة والعقل معاً، كما يمكن أن يصبح أداة للتمرد، والنهضة، والبناء، والهدم على حد سواء. فالأدب أداة لتشكيل الوعي السياسي، فمن خلال الروايات والقصائد، والمسرحيات، إستطاع الأدب أن يرسّخ قيّماً سياسية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

 إنّ الكلمة الأدبية لا تكتفي بالشرح، بل تجعل القاريء يعيش التجربة بكل أبعادها النفسية والإنسانية، وهو ما يُحدث تحولاً حقيقياً في المواقف والأفكار. فعلى سبيل المثال لا الحصر، روايات نجيب محفوظ، وخاصة ثلاثيته، لم تكن مجرد حكايات عن أسرة مصرية، بل كانت مرآة دقيقة للتحولات السياسية والاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. لقد جعل محفوظ السياسة في كتاباته ملموسة وحيّة في عيون القاريء من خلال شخصياته وسلسلة أحداثه عبرالأجيال.

بين الأدب والسياسة تأريخ مشترك

إن المتابع للعلاقة بين تأريخ الأدب والسياسة، سيجده كان وسيلة لمقاومة القمع وتعرية الإستبداد في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح الأدب غالباً الملجأ الأخير لقول ما لا يُقال. فالشاعر أو الروائي أو الفنان،  يلتف على الرقيب بأساليب رمزية وإستعارية، لكنه يصل الى الجمهور بشكل أقوى من الشعارات والخُطب. ومثال على ما تقدم، فأن الكاتب جورج أورويل في روايته (1948) قدّم صورة عن المجتمعات الخاضعة للرقابة الشاملة، وقد تحوّلت الرواية الى تحذير عالمي من مخاطر التلاعب بالوعي والسيطرة على الفكر.

ففي فترات النضال الوطني أو بعد الإستقلال لكثير من الدول والشعوب، لعب الأدب دوراً في بناء (السردية الوطنية) أي القصة التي تروي من نحن، وما مررنا به، ولماذا نستحق السيادة والكرامة. فهو هنا يُسهم في صياغة خطاب سياسي وثقافي تلتف حوله الشعوب. فشاعرالعرب الأكبر محمد مهدي الجواهيري، ومعروف عبدالغني الرصافي وغيرهما، آستخدم الشعر كأداة للمقاومة، وبث الروح الوطنية عند العراقيين، فأصبحت قصائدهما بمثابة بيانات سياسية تعبّر عن الهوية العراقية في مواجهة فترة الحكم الملكي ومن ورائه بريطانيا.

عدالة القضايا

فهو محرك للثورات والتحولات الكبرى، فالكثير من الحركات الثورية لم تكن فقط مسلحة بالسلاح، بل بالكلمة المسلحة. فالقصائد والمقالات والروايات كانت تحفز الشعوب وتغذيها بالإيمان بعدالة قضاياها. وهذا ما حصل في الثورة الفرنسية، إذ كان فولتير وجان جاك روسو، تأثيرهما الفكري الهائل على الشعب الفرنسي، حيث أسست كتاباتهما وآخرين معهم،  لمفاهيم (حقوق الإنسان) و(العدالة الاحتماعية) التي شكلت جوهر مطالب الثورة آنذاك.

لقد كان العديد من السياسيين أّن أعتمدوا على الأدب في خطاباتهم وخطبّهم، وبعضهم كان أديباً بالأساس. فالأدب يمنح السياسي أدوات بلاغية وفكرية تجعله أكثر قدرة على التأثير والإقناع. كما أن اللغة الأدبية تساعد في صياغة خطابات سياسية أكثر إنسانية وأقل جموداً. كما كان الرئيس التشيلي الأسبق (بابلوا نيرودا) شاعراً، وفاز بجائزة نوبل، وكان صوته الشعري مصدر إلهام لملايين الفقراء والمظلومين في أمريكا اللاتينية.

الأدب والتأريخ البديل للسياسة

بعكس التأريخ الرسمي، يقدم الأدب صورة أكثر إنسانية وعمقاً للتجربة السياسية. قد تذكر الكتب المدرسية عن حرب أو ثورة، لكنها لا تنقل أثرها على الناس، بينما يستطيع كاتب أدبي أن يجعلك تشعر بما شعر به الضحايا، المنفيون، الثوار، وكذلك المهزومون. فعندما تقرأ رواية عن الحروب (الطريق الى تل المطران) للكاتب العراقي الراحل فؤاد التكرلي، التي تكشف لنا عن أهوال الحرب العراقية الإيرانية بعيون إنسانية مؤلمة، بعيدة عن الشعارات الرسمية، كذلك الحال لو قرأنا رواية الحرب والسلام للروائي الروسي تولستوي، فتجد مدى قوة تأثير الأدب لدى المتلقي.

إذاً، يُمكن القول إن الأدب ليس فقط شاهداً على السياسة، بل فاعل فيها ومشارك في صياغتها. هو الأداة التي تشحذ الوعي، وتفك السلطة، وتعيد تعريف المفاهيم، وتوحد الناس حول قيم ومبادئ، لا تنتهي بآنتهاء الرواية أو القصيد، بل تبدأ منها.

الأدب كجسر بين الثقافات والسياسات المختلفة

ففي عالم تتشابك فيه المصالح السياسية وتتباين فيه الأيديولوجيات، يبقى الأدب واحداً من أنقى وسائل التواصل بين الشعوب. الذي يتجاوز الحواجز اللغوية والسياسية ليكشف عن الإنسان المشترك في كل مكان. وعندما يقرأ القاريء العربي رواية أمريكية تنتقد العنصرية، أو يقرأ الأوربي شعراً منفياً عن القضية الفلسطينية، تحدث لحظة من التفاهم الإنساني والتقارب تتجاوز الدبلوماسية والسياسة.

هذا البعد الإنساني الذي يتيحهُ الأدب هو ما يجعله عنصراً مهماً في (الدبلوماسية الثقافية)، حيث تسهم الروايات والمسرحيات والشعر، كذلك الفنون،  في تليين العلاقات بين الدول، وفتح أبواب الحوار غير الرسمي، وبناء صورة إيجابية للشعوب تتجاوز سياسات حكومتها.

إنّ العلاقة بين الأدب والسياسة ليست علاقة تبعية، بل شراكة معقدة ومتشابكة. فكما تستعين السياسة بالأدب لبناء خطاباتها وتجميل صورتها، فإن الأدب يحتفظ لنفسه بحق النقد والرفض والتمرد. الأدب لا يصنع السياسة فقط، بل يضعها تحت المجهر، ويحمّلها مسؤولية الإنسان، ويذكّرها دوماً بأن ما لا تقدر على تغييره القوانين، قد تغيره القصيدة أو الرواية أو الفنون الأخرى بكل أشكالها.

 


مشاهدات 62
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/06/28 - 12:06 AM
آخر تحديث 2025/06/28 - 4:44 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 130 الشهر 17157 الكلي 11151811
الوقت الآن
السبت 2025/6/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير