رواية هيفاء بيطار.. إحتفاء سردي بالمرأة..عاشقة ومعشوقة
فيصل عبدالحسن
يوجد في الوطن العربي أسلوب نسائي معروف للكتابة عن المرأة، جاء من نسج أديبات، كغادة السمان، عالية ممدوح، نوال السعداوي، أحلام مستغانمي، وغيرهن. ولكن هيفاء بيطار في روايتها “ امرأة في الخمسين” نسجتْ نثراً شعرياً خاصاً بها، وكتبتْ بجرأة، وأضافتْ لمتنِها معرفيّات طبيّة ونفسيّة وفلسفيّة، وإحساسات صادقة عن مشاعر المرأة.
أضحكتنا وأبكتنا حيوات نسائها، والتي جسدتْ فيها سِحْرُ الأنثى المثقفة الذي يقلل من قُبْح العالم، ويبرز تألق المرأة كأم وعاشقة وزوجة، وأكدتْ فيها أنها أكثر مقدرة على صنع الجمال والفرح من الرجل، وأكدت تفوَّقها على غيرها من الكاتبات العربيات المتخصَّصات في الكتابة عن المرأة .
تذكر الكاتبة السورية هيفاء بيطار في روايتها “امرأة في الخمسين” :”يجب أنْ نكشف الجرح إذْا أردناه أنْ يشفى تماماً “. والكاتبة تحيلنا بذلك إلى هدفين أساسيّين لروايتها، الأول، تَأسيس مَعْرفة مسَرَّدة تتعلق بالمرأة، نستشفُّ منها انساقاً معرفيّة لم نكن نعرفها. والثاني يحيلنا إلى قِيَم جماليّة نستمدُ منها الفرح، والمشاعر الذوقيَّة الباذخة، حول جمال الأنثى، وما أغدقه الله تعالى عليها من الصِفات البديعة، لاستمرار النسل ولحَياة.
معظم كتابات بيطار تدور حول المرأة، والعادات التي تكبل حريتها، ومطالبها بعالم يقدرها، ويراها كياناً مستقلاً، حراً.
جاءت المحافل السردية للرواية بأَلسِنة متكلمات، وتناولن فيها سيرهنَّ وذكرّنَّ بأسعد أيامهنَّ وأكثرها حزناً، وما تشعره سيدات في الخمسين من أعمارهنَّ أو تجاوزنه بسنوات.
شهوات الجسد
بالرغم من أن الكاتبة طبيبة عيون، لكن القارىء يشعر أنه يقرأ لدكتورة نفسانيّة أمضت عمرها بمعالجة أمراض نفسيّة مستعصية، كاكتئاب مابعد الولادة، ص138 ومرض العصاب الثنائي القطب، ص154 وغيرها من الأمراض النفسية.
تتساءل الساردة مستغربة عن سلوك بطلتها الصحفية، محاولة الإجابة على سؤال» لماذا بطلتها تريد أن تفعل ما لاتحبه؟ ص18 «. وهي بذلك أسستْ خرقاً للمألوف في الكتابة السردية، ففي العادة أن الشخصيات تفعل ما تريده. وعندما يكون الأمر العكس، فهذا استبطان لشخصيات متناقضة. عاشت حيوات صعبة، وذلك ما نكتشفه بسرد في غاية الجمال هيمنت عليه غنائيات شعرية، كموتيفات موسيقية متوالية كمقاطع صغيرة عذبة جعلت من الفكرة فعلاً عاطفياً نتعاطف معه حتى ولو كنا غير متوافقين معه فكرياً.
تقول الصحفية: « الخمسون هو عمر الانعتاق من شهوات الجسد، وهيمنة الرجل « وتصرح :» كنت سعيدة لأنني مشتهاة ومعشوقة ومرغوبة «. ونكتشف بعد صفحات قليلة أننا أزاء امرأة فقدت نضارتها الروحية، وإنها لا تزال تمتلك نضارة الجسد، فهي تقول :» وعجبت كيف لم أدثر نفسي بالغطاء، كنت أريد أن أهزمه بنضارة جسدي، بنضارة جسد امرأة في الخمسين. «. ونعرف أن ما تعيشه من مشاعر متناقضة يعود لزواجها بعد الثلاثين»: تزوجت أخيراً لأنني يجب أن أدفع تلك الضريبة تجاه مُجتمعي «. تزوجتْ رجلاً سادياً خرب روحي، وتتحدث مع صديقة لها قائلة «جسدك لا يعود ملكاً لك بعد الزواج « ص44. فتتساءل بحيرة « هل جسدي ملكي أم ملك زوجي ؟ « ص67. وتضع نهاية لعذابها بالطلاق منه بالرغم من أن طفلاً ولد لهما.».
بافلوف
تتعرف الصحفية على فابيولا، مؤسسة جمعية نساء في الخمسين بعد طلاقها، ولها معاناة مشابهة، فحبيبها رجل متزوج، له ثلاثة أبناء «تتعرف عليه في مكتبة الأسكندرية «. وتحمل منه وتنجب ولداً لا يعترف بأبوته. فتصير فابيولا المحفل السردي الأهم في الرواية، لتدرس الكاتبة من خلاله أزمة الأخلاق لدى الرجل، وتتساءل « هل يوجد رجل يهزم غريزته ؟ « واستنتجت» أصبح الجنس مجرد تفريج عن ضيق. وصفة طبية. مضاد اكتئاب « ص87.
وفاء أنموذج آخر للمرأة المهزومة، تنتمي للجمعية، وتروي ساخرة من اسمها في عالم لا وفاء فيه « تزوجت رجلاً شعاره « كل شيء مُباح لي» وهو يعني بالطبع إباحة خيانته لها.
وتنتمي إبتهال الممثلة المشهورة، إلى الجمعية، فتروي، كيف تحولت إلى أنموذج للسقوط. تقول « ارتبط بذهني مُنعكس أشبه بالمنعكس الشرطي لبافلوف بأنَّ نجاحي كممثلة والعهر وجهان لعملة واحدة « ص108.
أما الطبيبة كاتيا، فهي أنموذج فريد للمريضة النفسيّة. عاشت طفولتها مع عائلة تمجد الذكوريّة، وترفع شعار أن للذكر الحق في فعل ما يشاء. تقول « أبوها يستعرض فحولته أمام بناته وأبنيه بقصص وهمية ويظهر دائماً بسروال قصير غير محتشم. «. لذلك اتخذت في الحياة بعد تخرجها من كلية الطب عملاً غريباً «: رتق بكارة من تطلب ذلك !! متعللة بأنَّ كل شيء ممكن في زمننا، والأخطاء مهما كانت فادحة فلا يجب أن تشطب الحياة والمستقبل لفتيات صغيرات قليلات التجربة.
النص الصوفي
« فتون» طبيبة التخدير، أنموذج لقبح منظر المرأة، لكنها تملك روحاً مملوءة بالجمال، تحب فتى أسمه أنيس من طرف واحد. وعندما يتزوج من أخرى، تكاد أن تجن، لكن علاقتها بامرأة متزوجة هي «هند» تنقذها من ذلك المصير. «.
أما نجاة، فقد أبكت الجميع، لأنها عبرت خير تعبير عن حرمان المرأة من الأطفال بسبب عبورها مرحلة سن اليأس من دون أن تنجب. فاضطرت أن تتخلى عن إقامتها في فرنسا بسبب تبنيها لطفلة أشترتها من «عيادة لبيع الأطفال المتخلين عنهم في إحدى القرى السورية. «
و»ريم» امرأة لا تُنسى بحق أيضاً، فهيَّ امرأة في عزِّ شبابها وجمالها... وهيَّ العطاء الذي لا ينتهي وقد رفعت مستوى السرد في الرواية إلى مراتب النص الصوفي، وجعلت لهذه المرأة المُضحية غلالة شفافة من السمو، الذي لا مثيل له في أدبنا الروائي النسائي. تحكي قصتها مع طفلها المعاق، فتقول « أكون أماً لمعاق يعني اني اقترب من الله تعالى «. وتروي عن مرض طفلها « كان يصاب بنوبات مُروّعة من الاختلاجات والصرع، كنت أجثو بجانبه أتامل جسده النحيل يرتطم بالأرض بقوة، وروحي ترفرف معه كأنني ألفظ أنفاسي بجانبه. « ص168.وسردتْ لنا الكاتبة في روايتها الجانب المخفي من معاناة المرأة المثقفة، التي تعيش ازدواجيّة الحياة المعاصرة، وتقاليد الماضي. فهي احتفاء سردي بالمرأة: عاشقة ومعشوقة، ربة بيت أو موظفة، متزوجة أو لا تزال عَزْباء، أم، أو لا تزال تحلم بالأمومة.
الرواية صدرت عن دار الساقي، وهيَّ التاسعة لبيطار بعد إحدى عشرة مجموعة قصصية. وكانت أول مجموعاتها» ورود لن تموت « عام 1992 وأول راوية لها « يوميات مطلقة « عام 1994.
كاتب وصحفي عراقي مقيم بالمغرب