الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تشي جيفارا.. ماذا بقي منه؟

بواسطة azzaman

أذن وعين

تشي جيفارا.. ماذا بقي منه؟

عبد اللطيف السعدون

 

نعدُّ، نحن شباب الستينيات، تشي جيفارا، واحداً من ملهمين معدودين، لم يعلمونا «الكفاح المسلح» و»مقاتلة الإمبريالية العالمية» وحسب، وإنما أيضاً «علم الثورة» والأناشيد الكونية، وفتحوا عيوننا على «عولمةٍ» من نمط مختلف. كان يكفي أن يرتفع صوت عامل في أزقة بوليفيا، أو مقاتل في أحراش فيتنام، حتى نهب صارخين بالتضامن معه، ومتغيبين عن دروسنا لنجمع تواقيع العابرين في شوارع مدننا وقرانا، من أجل أن تكف «الإمبريالية العالمية» عن أذاها له، أعطانا تشي دروساً في التضحية «فإذا لم تحترق أنت، وأحترق أنا، فمن سينير الطريق الحالك الظلمة؟» وحملنا مسؤولية تحرير العالم كله من الظلم والاضطهاد والعنصرية، كان همّنا أن نصنع ضجيجاً من حولنا، كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء.

هكذا علّمنا جيفارا، لكننا لم نكن ندرك مغامرته على سعتها، ولم نقرأه على نحو نقدي، على الرغم من أن بعضهم تجرّأ في حينه وعدّه «مغامراً»، بعض آخر وصفه بأنه «ثوري ونبيل، لكنه أخطأ في محاولته تكرار ما حصل في كوبا في مكان مختلف، ولذلك فشل». رد جيفارا على منتقديه بأن مغامرته «مغامرة أولئك الفرسان الذين يخاطرون بحياتهم، في سبيل الدفاع عن الحقيقة»، وجاء وصف سارتر له بأنه «الإنسان الأكثر اكتمالا في عصرنا»، لتقطع جهيزةُ كلَّ خطيب، وليخفف العبء عنّا في نقده أو قراءة مشروعه بصرامة، وقد وجدناه فارساً أسطورياً، يمتلك من الحلم وحب المغامرة فيضاً كبيراً، وعرفناه مفكراً بدرجة وعي متقدمة، أذهلته الامتيازات التي يحصل عليها الثوار، بعد وصولهم إلى السلطة، في تجربة أكثر من دولة، «أولئك الثوار ينتابهم الصقيع، عندما يجلسون على الكراسي، وتتجمد الثورة لديهم». ولذلك نأى بنفسه عنهم، هجر كل مناصبه وامتيازاته التي منحتها له الثورة الكوبية، وفكّر في اشتراكيةٍ تضمن الحاجات الإنسانية، ولا تخلق طبقة جديدة تتوارث امتيازات من سبق، لكنه أخفق في استخلاص ما يمكن أن تقوده إليه مغامرته، قال مرة إنه لا يخشى على نفسه، بقدر ما يخشى على مشروعه.

مجموعة مواهب

وصفته مجلة تايم بأنه أحد الرجال المؤثرين المائة في القرن العشرين، وامتلك مجموعة مواهب مرة واحدة، «عندما طلبت كوبا القذائف الحربية من موسكو، أنشأ تشي مصنعاً لها، وعندما احتاجت الخبز بنى أفرانا لتجهيزه، وعندما احتاج المجندون الجدد معرفة الخطط والأنظمة العسكرية، تطوّع تشي بتدريسها، وعندما نظمت حملة لتعليم فقراء كوبا القراءة والكتابة، أقام تشي مدراس ومعاهد، وأشرف على إدارتها».

أشعل نار الثورة ضد أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، خصوصاً في أميركا اللاتينية، ومعه ازدهرت حروب المقاومة، واضطرت أميركا لتشكيل وحدة تدريب باسم «ذوي القبعات الخضر»، مهمتها ملاحقة رجال المقاومة والقضاء عليهم، وقد لاحقته في أحراش بوليفيا، وألقت القبض عليه، بعد معركة طاحنة، وأعدمته. ونقل عنه، في رواية غير موثوقة، إنه قال ساعة احتضاره «أنا تشي جيفارا، لقد فشلت».

انتزعت السنين التي مرت على غيابه الكثير من هالته التي كانت تضيء زوايا عالم الأمس، اكتشف بعضنا أنه كان طوباوياً ومتعصباً لمشروعه الثوري على نحو مفرط، لكن أسوأ ما واجهه جيفارا هو إنكار بعض مريديه له ولمشروعه على نحو استفزازي، بعدما تغيّرت أحوال، واستجدّت وقائع، فرضت توجه هؤلاء للاستقرار في عواصم الإمبريالية العالمية التي كانوا يناصبونها العداء.

الجيفاري العراقي الأول الذي قاد حرب العصابات في أهوار العراق، منتصف الستينيات، عزيز الحاج، عندما حط رحاله في فرنسا، كتب: «ذهبت إلى باريس، أحد أوكار الإمبريالية، لأكتشف أنه هو الديمقراطية والحرية واحترام الإنسان»، وقد دفعه اكتشافه المتأخر هذا إلى أن يهجر «الجيفارية»، وينصرف للتبشير بمذهب الليبراليين الجدد، ثم ليقف لاحقاً مع غزاة بلاده، مشيداً بهم بناة للحرية والديمقراطية. ولو قدر لتشي أن يعود إلى الحياة، لعاود صرخته التي قيل إنه أطلقها في وجه سجّانيه، ليطلقها، هذه المرة، في وجوه مريديه الذين أنكروه عند صياح الديك: «أنا تشي جيفارا، لقد فشلت».

 

 

 


مشاهدات 314
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/10/25 - 3:50 PM
آخر تحديث 2024/10/28 - 11:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 249 الشهر 11872 الكلي 10041595
الوقت الآن
الإثنين 2024/10/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير