لماذا أبتعد جيل اليوم عن لغته الأم؟ قراءة في سوسيولوجيا اللغة
عصام البرّام
لم يعد البُعد اللغوي الذي نلاحظه بين جيل اليوم ولغته الأم مجرد ظاهرة لغوية بسيطة أو مسألة تعليمية يمكن حلها بتغيير مناهج أو إضافة دروس. فقد أصبح هذا الابتعاد ظاهرة اجتماعية وثقافية عميقة، تشكّل جزءًا من التحولات الكبرى التي يعيشها العالم المعاصر. وفي قلب هذه الظاهرة تقف اللغة العربية، التي كانت يوماً العمود الفقري للهوية والتعبير والمعرفة في المجتمعات العربية، فإذا بها تواجه الآن تحديًا وجوديًا حقيقيًا يتمثل في مشاركة لغات ولهجات وأساليب تواصل جديدة لها في الفضاء العام. والسؤال الذي صار يفرض نفسه على كل باحث ومربي ومثقف هو: لماذا يبتعد جيل اليوم عن لغته الأم؟ وهل هذا الابتعاد هو نتيجة تقصير، أم أنه تحوّل طبيعي في سياق سوسيولوجي جديد لا يمكن تجاهله؟
لقد شهدت العقود الأخيرة سلسلة من التحولات الاجتماعية التي أعادت تشكيل علاقة الأجيال باللغة. فالعائلة العربية التي كانت تُعَد أول مدرسة لغوية للطفل تغيّر دورها تدريجيًا. لم تعد جلسات الأمسيات العائلية التي يتداول فيها أفراد الأسرة الحكايات والأمثال والتعابير الشعبية موجودة بالشكل الذي كانت عليه. حلّت الشاشات محلّ الوعي اللغوي المباشر، وحلّت المشاهد المصوّرة محل اللغة المنطوقة، وتقلّصت مساحة الحوار داخل البيت. هذا الفراغ اللغوي العائلي انعكس بشكل مباشر على لغة الأجيال الجديدة، التي لم تعد تتلقى المدخلات اللغوية الغنية التي كانت سمة البيئات العربية التقليدية.
ثم جاءت التحولات المدرسية لتضيف عنصرًا جديدًا إلى المشهد. فالتعليم العربي المعاصر يعاني من ازدواجية لغوية واضحة بين لغات التدريس ولغة الهوية. ففي العديد من البلدان العربية، يتم تدريس العلوم والرياضيات والبرمجة بلغات أجنبية، غالبًا الإنجليزية أو الفرنسية. وهذا يعني أن الطفل يتعلم التفكير العلمي بلغة، والتعبير العاطفي بلغة أخرى، والتواصل الاجتماعي بلغة ثالثة. هذه الازدواجية لا تُنتج تراجعًا لغويًا فحسب، بل تُنتج انقسامًا ذهنيًا بين هويات لغوية متوازية لا تتكامل. ومع مرور الوقت، يصبح الطالب أكثر ميلاً إلى اللغة التي تمنحه فرصًا تعليمية ومهنية أكبر، وأقل ميلًا إلى لغته الأم التي يراها محصورة في الأدب أو المحادثة اليومية.
كما لا يمكن فصل ابتعاد جيل اليوم عن اللغة العربية عن التحول العالمي في وسائط التواصل. فقد أصبح جزء كبير من حياة الشباب يدور في فضاءات رقمية، من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الفيديوهات القصيرة إلى الألعاب الإلكترونية. وهذه الفضاءات لا تعترف بالفصحى ولا تمنحها مكانًا مريحًا. إذ إن اللغة السريعة المختصرة، الممزوجة بالإنجليزية غالبًا، أصبحت هي اللغة السائدة في هذه العوالم. وهكذا نشأت لغة هجينة جديدة تبتعد كثيرًا عن العربية الفصيحة، وتميل إلى العاميات والتعابير الأجنبية والرموز. والمشكلة ليست في وجود هذه اللغة الهجينة في حد ذاتها، فكل مجتمع يصنع لغته الرقمية. المشكلة أن هذه اللغة أصبحت تشكّل النسيج اللغوي اليومي للجيل الجديد، بينما تراجعت الفصحى إلى المناسبات الرسمية أو الامتحانات أو البرامج الثقافية.
والواقع أن وسائل التواصل الاجتماعي قد غيرت وظيفة اللغة في المجتمع برمّته. لم تعد اللغة أداة للتفكير العميق والنقاش الطويل، بل أصبحت أداة سريعة للرد والتفاعل والمشاركة اللحظية. وكلما قلّ زمن التفاعل، قلّ منسوب العناية باللغة. فالمستخدم لا يفكر في قواعد الإملاء أو النحو أو البلاغة حين يكتب رسالة قصيرة أو تعليقًا سريعًا. وهكذا يتشكّل تدريجيًا جيل لا يرى في اللغة العربية أداة للعمق، بل عبئًا لا يتناسب مع إيقاع حياته.
ولا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي في تفسير ابتعاد الجيل الجديد عن لغته. فالعالم اليوم لا يكافئ اللغة العربية في سوق العمل مثلما يكافئ الإنجليزية أو غيرها من اللغات العالمية. والشركات الكبرى، والمؤسسات التقنية، والجامعات الدولية، كلها تعتمد على لغات أجنبية في معاملاتها اليومية. لذلك ينمو لدى الشباب شعور بأن العربية لا تمنحهم مستقبلًا مهنيًا مشرقًا. وهذا الشعور، سواء كان صحيحًا أم مبالغًا فيه، ينعكس على موقفهم من اللغة نفسها. فاللغة التي لا تحقق مكاسب مهنية تبدو لهم أقل أهمية، مهما كان عمقها وجمالها وقيمتها الحضارية.
إضافة إلى ذلك، فإن التحولات السياسية والثقافية التي شهدها العالم العربي في العقود الأخيرة ضعّفت دور اللغة بوصفها مرجعًا جامعًا للهوية. ففي الماضي، كانت العربية رمزًا للوحدة الثقافية، وللتراث، وللقيم المشتركة. أما اليوم، فقد ازدادت الانقسامات الاجتماعية، وظهرت هويات فرعية جديدة، وازدادت التأثيرات الإعلامية الخارجية، وتراجعت الرموز المشتركة. ومع كل هذا التشتت، فقدت العربية جزءًا من مكانتها الرمزية التقليدية. وصار بعض الشباب يرى هويته الفردية والجماعية من منظور عالمي أكثر منه محليًا أو عربيًا، مما أدى إلى نوع من اللامبالاة تجاه الفصحى.
ومع ذلك، فإن الابتعاد عن العربية ليس ابتعادًا جذريًا أو نهائيًا، بل هو ابتعاد عن نمط معين من اللغة العربية، وليس عن اللغة بكاملها. فالشباب ما زالوا يستخدمون العاميات العربية بكثافة، ويبدعون فيها، ويطوّرون تراكيب جديدة وأساليب تعبيرية تتناسب مع ثقافتهم الرقمية. وهذا يعني أن اللغة ما زالت حيّة، لكنها تسير نحو اتجاهات جديدة ربما لا تُرضي علماء اللغة التقليديين. والظاهرة في هذا السياق ليست انقطاعًا، بل انتقالًا من لغة رسمية إلى لغة شعبية ثم إلى لغة رقمية. وكل انتقال لغوي ترافقه توترات بين القديم والجديد.
ومن منظور سوسيولوجيا اللغة، يمكن تفسير هذا الابتعاد بأنه نتيجة طبيعية لتحول المجتمع من مجتمع شفهي إلى مجتمع رقمي، ومن مجتمع يقدّس الكتاب إلى مجتمع يقدّس الصورة، ومن مجتمع يعتمد على التواصل المباشر إلى مجتمع تهيمن عليه الشاشات. وهذه التحولات لا يمكن إيقافها أو عكسها، بل يمكن فقط إدارتها وتوجيهها. فالمجتمع الذي يربط لغته بالماضي فقط يخسر المستقبل، بينما المجتمع الذي ينجح في تكييف لغته مع العصر يحتفظ بهويته ويضمن استمرار لغته الأم.
وقد يكون أخطر ما في هذه الظاهرة أن جيل اليوم لم يُمنح الفرصة الكاملة ليكتشف جمال لغته. فالكثير من المناهج التعليمية تزرع الخوف من الأخطاء، لا حب اللغة. والكثير من المعلمين يركزون على العقاب وليس على الإبداع. والكثير من المؤسسات الإعلامية تقدم محتوى فقيرًا لا يعكس جمال العربية وقدرتها التعبيرية. فإذا لم تتوفر بيئة لغوية جاذبة ومحفزة، فمن الطبيعي أن يبتعد الشباب ويبحثوا عن البديل الأسهل والأسرع.
ومع ذلك، فإن الأمل ما يزال قائمًا، بل وبارزًا في كثير من المبادرات الثقافية والتعليمية الحديثة. بدأنا نرى محتوى عربيًا يسارِع ليتخذ مكانه في المنصات الرقمية، وبدأت قنوات عربية تقدّم الفصحى بطريقة جديدة أكثر قربًا من الجيل الشاب. كما ظهرت مبادرات في الذكاء الاصطناعي تهدف إلى تعليم العربية عبر التطبيقات الذكية، ومشاريع لتجديد الخطاب اللغوي في المدارس، وحركات شبابية تدافع عن الفصحى باعتبارها لغة المستقبل وليست لغة الماضي فقط.
في النهاية، فإن ابتعاد جيل اليوم عن لغته الأم ليس نتيجة ضعف في اللغة، بل نتيجة ضعف في السياسات التي تدعم اللغة وتفتح لها أبواب المستقبل. وإذا كانت اللغة العربية قد صمدت أمام الغزوات العسكرية والفكرية والثقافية عبر التاريخ، فإنها قادرة أيضًا على الصمود أمام موجة العولمة والتقنية، بشرط أن نعيد تقديمها للجيل الجديد بطريقة تجعلها لغتهم الحقيقية لا لغة الامتحانات فقط. فالشباب لا يبتعدون عن العربية لأنها غير جميلة أو غير مناسبة للعصر، بل لأننا لم ننجح بعد في جعلها جزءًا طبيعيًا من حياتهم اليومية.