سعد البزاز.. يد تقود ويد تجود
هارون محمد
من يعرف أبو الطيب عن قرب، وأزعم انا واحد منهم، لابد ويكتشف ولو بعد حين، ان هذا الرجل يختزن طاقات هائلة في العمل الصحفي، فهو كاتب رشيق الكلمات عميق المفردات، وهو مهندس خبر، ومبدع في صياغة العناوين وصناعة (المانشيتات) وهي من المهام الصعبة والمرهقة، في عمل الجريدة اليومية، كما يقول استاذنا الراحل هيكل، واتذكر ان اذاعة لندن (بي بي سي)، قد خالفت السياق التقليدي التي كانت تعمل بموجبه، حيث كانت لا تذيع خبراً ولا تشير الى (مانشيت) احدى الصحف العربية، الا بعد مضي ستة شهور على صدور الصحيفة بانتظام ـ هكذا كان يقال لنا ـ وكنا نحن اسرة (الزمان) نسابق الزمن ونطوي الايام حتى نعبر الشهور الستة، فاذاعة لندن كانت منصة للانتشار، وبوابة للترويج، وبرنامجها الصباحي (الصحافة العربية في لندن) مسموع ومُتابع، وفوجئنا ونحن لم نكمل ثلاثة شهور من الصدور، بان (الزمان) احتلت مكاناً بارزاً في البرنامج المذكور الى جانب شقيقاتها اللندنيات، الحياة والقدس العربي والعرب والشرق الاوسط والطبعات الدولية للاهرام المصرية والوطن الكويتية، وما زلت أتذكر أول تقرير اخباري اذيع وكان عنوانه: (الزمان .. ترافق عصمت عبد المجيد في زيارته الى بغداد)، وكان يتناول زيارة الامين العام لجامعة الدول العربية يومها الى العاصمة العراقية واجتماعه مع الرئيس صدام حسين، نشر في صدر الصفحة الاولى وعلى ثمانية أعمدة، وصار اسم (الزمان) وعناوين أخبارها، ومقتطفات من تقاريرها، متداولاً بصورة يومية في الـ(بي بي سي)، وقال لنا المسؤول عن البرنامج، وهو صحفي مصري مخضرم، أخبار جريتكم ومانشيتاتها المثيرة، فرضت علينا التعاطي معها.
كان سعداً برغم جديته وحرصه على سير العمل في الجريدة، يولي الجوانب الانسانية اهتماماً واضحاً، ففي الشهور الثلاثة من صدور (الزمان) عيَن صحفياً سودانياً كمحرر في الجريدة، ولاحظت من خلال مسؤوليتي، كمدير للتحرير، ان الرجل ينشغل كثيراً باتصالات هاتفية خاصة، وغير منتجة، فزجرته وأنذرته، فشكاني باكياً الى رئيس التحرير، فطيب أبو الطيب خاطره، وهمس في أذني، أنه استجاب لرجاء الروائي الكبير الطيب صالح في تعيينه، فقد كان صاحبنا في الاصل صحفياً رياضياً، قريباً له، وهو عاطل عن العمل، وبحاجة الى العون.
ذات يوم اكتشفت ان محررنا الاقتصادي، وهو شاب شيوعي سابق، يقتبس كثيراً، من برامج اقتصادية تبث من محطات التلفزة والاذاعات العربية، فاضطر الى شطبها، وشكاني كما زميلنا السوداني الى رئيس التحرير، واتهمني بالتحامل عليه، وهنا ثار ابو الطيب وأنبه بلطف ولباقة، وأخذني الى جنب وقال لي: انه مصاب بمرض خطير، لا تثقل عليه، وعرفت لاحقاً، ان الاستاذ سعد كا ن يساعده ويصرف له راتبه ويساهم في شراء أدوية مرضه الذي استفحل وأقعده في البيت، قبل ان يرحل الى جوار ربه، رحمه الله.
كنت اكتب مرة أو مرتين في الاسبوع في زاوية (يوميات الزمان) في الصفحة الاخيرة، وذات مرة كتبت في ذكرى استشهاد القطب الشيوعي سلام عادل، وكان عنوان المقال: يا سلام !، تناولت صموده عندما اعتقل عقب حركة 8 شباط 1963، ومصرعه في قصر النهاية، وغمزت من اولئك القادة الشيوعيين الذين تخاذلوا واعترفوا، وبعضهم ظهر على شاشة تلفزيون بغداد، وهاج عزيز الحاج وكان يقيم في باريس، وأرسل مقالاً نشر في (الزمان) تهجم علي واتهمني بالجهل وعدم معرفة ظروف اعتقاله في شباط 1969، وظهوره في التلفزيون، دون ان يعرف بانني كنت الى جواره في المعتقل، ومطلع على مشهده اليومي، في الغرقة المخصصة له فقط، ببابها المفتوح دائماً، وفيها سرير وفراش وجهاز تلفزيون ومنقلة فحم، وأدوات شاي وقهوة وماء صاف للشرب، في حين كان رفاقه سامي أحمد وكاظم الصفار وأمين الخيون وصالح العسكري وفياض موزان وحميد الصافي وآخرون في قاعة مجاورة لغرفته، يعانون من القهر والاضطهاد والتعنيف، ورددت عليه وانتقدت ضعفه وتخليه عن رفاقه، ودخل على خط الاشتباك ابن اخت صالح الحيدري الذي قتل في قصر النهاية في كانون الثاني 1970، وأعلن انه سيقدم شكوى في المحاكم الفرنسية ضد الحاج لضلوعه في مقتل خاله.
وجاءني ابو الطيب، وتمنى علي ان أغلق هذا الباب، لان عزيز الحاج رجل كبير ومريض ويشكو غربة وعزلة، وليس من الصواب وهو في هذه الحالة، اثارة المتاعب له وتهييج مواجعه، واستجبت وسكت، وقدرت موقفه الانساني.
وسعد البزاز، شخصية مدهشة، في عمله المهني، وتعاطيه الانساني، فهو الى جانب صرامته في العمل الصحفي والاعلامي، رقته في الجوانب الانسانية، ومبادراته في تقديم العون والمساعدة الى العراقيين، ظاهرة ومعروفه، حيث صارت (الشرقية) وهي تتألق في الفضاء ببرامجها وتغطياتها، نافذة مشرعة للخير والعطاء والرحمة، وأكاد أجزم وانا الذي أمضيت أكثر من نصف قرن في الصحافة والسياسة، ان سعد البزاز، يكاد يكون الوحيد من الصحفيين اللامعين ورؤوساء المؤسسات الاعلامية في العالم، الذي يجمع بين المهنة والمروءة، فهو لم يوظف (الزمان) و (الشرقية) لحملات جمع التبرعات الخيرية، كما كان يفعل الراحل مصطفى أمين في (أخبار اليوم)، ولم يستثمر علاقاته بالكبار، وهم كثرة، لحثهم على الاسهام في أعمال انسانية، وهو قادر على ذلك، ولكنه يأبى، الا أن يكون هو المبادر والمتقدم، وشخصياً وأعرف مسبقاً، انه سيزعل ويحتج، لانني أكشف عن اتصالات معه، مرات ومرات، لمساعدة العديد من الزميلات والزملاء والاصدقاء ، اعلاميين وصحفيين وفنانين، ممن بحاجة الى عمليات جراحية او مراجعات طبية او مستلزمات حياتية، فلم يبخل يوماً، ولم يتأخر، ودائماً يقول لي: ارجوك خبرني، اتصل بي أو أكتب اليَ، واذكر انني طلبت مساعدته لتغطية عملية جراحية لزميل قديم، طالما كان يتهجم عليه، لاسباب شخصية أو دوافع حسدية، ولما أوصلت اليه (حوالة) الاستاذ، فوجيء وصفن قليلاً وقال: يا آلهي يبقى ابو الطيب على الدوام طيباً وكبيراً !.
كثيرة هي نجاحات سعد في (الزمان) و (الشرقية) وكثيرة هي مآثره السخية، لزملائه وأصدقائه، وكثيرة هي وقفاته الى جانب أهله وشعبه، يعرفها العراقيون ويتابعون تفاصيلها، والرجل ليس رئيساً أو وزيراً أو شاغل منصب عال، أو وظيفة مرموقه، وانما هو انسان عراقي أصيل، وطني وصاحب غيرة، ومبروك لـ(الزمان) وهي تصل الى الرقم 8 وثلاثة أصفار الى يمينه، وتحية لرئيسي تحريرها في بغداد ولندن، وتهنئة لكادرها والعاملين بها وكتابَها وكل من ينشر فيها ويطالعها، ورقاً أو على (النت).