الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سعد البزاز.. الإعلامي الذي كسر قوالب الصمت

بواسطة azzaman

سعد البزاز.. الإعلامي الذي كسر قوالب الصمت

ياس خضير البياتي

 

أعرفُ مسبقاً أن العقل العراقي لا يعترف بالرمادي؛ فهو يُقسّم الناس إلى أبيض أو أسود بلا مساحة للوسط.

ورغم كل ما يُقال عن سعد البزّاز، يبقى أثره المهني حقيقة لا ينازعها أحد: مهارة فذّة في صناعة الكلمة، ويد خبيرة في تشكيل الصورة التلفزيونية.

وإذ أدرك أن هذه السطور قد تشعل حرباً بين من يحبّونه ومن يخاصمونه، فإنني أكتب عن أمر لا يختلف عليه اثنان: براعة رجلٍ أعاد للإعلام العراقي نبضه، وللحرفة معناها، وللصورة شجاعتها.

لستُ أكتب عن شخصه أو مدينته أو قبيلته أو مواقفه السياسية ، بل عن مهنته… عن تلك الشطارة التي صنعت فرقاً لا يمكن تجاهله.

زاملته في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون منتصف السبعينيات حين كنت في معهد التدريب، فرأيته شاباً موصلياً بطموحٍ يتقد ولا يهدأ.

كان ديناميكياً بطبيعته، ميّالاً إلى التجديد والابتكار، يتقدم بالمبادرة كما لو أنه وُلد ليكسر النمط ويعيد تشكيله. ومنذ تلك اللحظة أدركت أن القادم من الموصل لم يأتِ بحثاً عن موقع… بل حاملاً مشروع تغيير كامل.

وفي مشهدٍ إعلامي طالما أثقلته الرتابة وشدّت قيوده اللغة الخشبية، لمع اسمه بوصفه واحداً من الأصوات القليلة التي امتلكت موهبة الانبعاث من داخل السكون. لم يكن مجرد صحفي يطرق أبواب المهنة، بل كان نسمة هواء تتسلل إلى غرف الصحافة المغلقة، توقظ الكلمة من سباتها، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإعلامي والجمهور.

منذ تولّيه رئاسة صحيفة الجمهورية، بدا واضحاً أنه لا يظهر لمجاراة موجة ساكنة. كان يتحرك بعقلٍ يرى في الإعلام مغامرة لا واجباً، ومساحة ابتكار لا وظيفة نمطية.

برامجه الإذاعية، وخصوصاً استراحة الظهيرة، قدّمت درساً في الإيقاع واللغة والجرأة؛ مزيجاً يحرّر المتلقي من جمود البث الرسمي ويقدّم إعلاماً نابضاً بالحياة، قوامه فكرة حيّة لا صوت مكرر.

لم يكن إعلامياً تقليدياً فحسب، بل كان مهندساً لأسلوب جديد يُخرج الإعلام العراقي من حيز النقل إلى فضاء السؤال.

كسر النمط المقولب، وأطلق نبرة لغوية حديثة، رشيقة وسهلة ومشحونة بالمعنى.

ومع تأسيسه الزمان ثم قيادته الشرقية العامة والخبرية ، ظهر وجهٌ مركّب: عقل رجل أعمال يفهم السوق، وعقل مهني يدرك مكان الضوء، وكيف تُوجّه الكاميرا نحو الفكرة لا نحو الوجوه.

يمتلك قدرة استثنائية على تحويل المقال إلى مشهد متكامل، والجملة إلى خطّ ضوء.

يقرأ القارئ كأنه يعرف خريطة النفس البشرية: متى يرفع الإيقاع، ومتى يفتح مساحة للتأمل. ولهذا أصبحت كتابته جمالاً لمن يبحث عن الذوق… وقلقاً لمن يخشى الحقيقة.

خلف صوته وإيقاع لغته، يقف مثقف واسع الأفق؛ يتكئ على معرفة تتقاطع فيها السياسة مع الاجتماع، والأدب مع التاريخ.

 هذه الخلفية جعلته إعلامياً لا يكتفي بنقل الحدث، بل يضعه في سياقه، ولا يُقدم الصورة وحدها بل معناها أيضاً.

 كان صوته يجمع بين السرد والحوار، بين دهاء السؤال وجرأة الفكرة، ليحتل مكانة يصعب انتزاعها أو تقليدها.

لم يكن البزاز إعلامياً فقط، بل كاتباً يخوض مغامرته بالقلم بجرأة لا تقلّ عن جرأته على الشاشة. كتبه كانت شرارة تُرمى في قلب المشهد العراقي، تثير الجدل لأنها تسير خارج الحدود المتوقعة وتواجه المسكوت عنه.

كتب بروح الصحفي ودقّة المفكر، فصدمت السلطة، وأربكت أصحاب الامتياز، وفتحت أمام القارئ أبواباً جديدة للأسئلة والنقاش.

البزاز مغامر بطبعه؛ يقترب من المناطق التي يخشاها غيره، ويُعيد تشكيل الشاشة كما لو أنها ورشة اختبار مستمر.

 لا يهاب كسر التابوهات المهنية حين يكون محتوى التجديد أثمن من تكلفة المخاطرة. لذلك كان دائماً في المقدمة، يمشي أمام القافلة لا خلفها، ويقبل ثمن التجديد ما دام يكسب احترام الجمهور وثقته.

لم يتوقف مشروعه عند إدارة الإعلام ، بل تمدّد إلى إعادة الاعتبار للمبدع العراقي. وحين ضنّت الدولة على المثقفين بالتكريم، ابتكر «قلادة الإبداع»، لتتحول مؤسسته إلى منصة تقدّر العقل الحي والموهبة الحقيقية، وتمنح الاعتراف لمن حُجب عنهم الضوء طويلاً.

لا أحد يستطيع أن يختزل دوره في خانة إعلامي تقليدي. إنه صوت جرأةٍ ورؤيةٍ متحركة، جمع بين رهافة المثقف وذكاء رجل الأعمال، فأعاد للصحافة العراقية بريقها، ومنح الشاشة حضوراً يليق بالإنسان العراقي.

 دخل البيوت بشاشة شرقية الروح عالمية الإيقاع، وحجز مكانه في الذاكرة الحديثة بوصفه أحد الذين قالوا ببساطة ووضوح: إن الكلمة حين تتسلح بالمعرفة والخيال… يمكن أن تكون أجمل من وردة ياسمين، وأقوى من رصاصة عابرة.

في النهاية، يبقى البزاز واحداً من القلائل الذين لم يكتفوا بكسر قوالب الإعلام، بل أعادوا تشكيلها من جديد.

رجلٌ لم يكتب ليُصفّق له أحد، بل ليهزّ الصمت ويحرّض السؤال، ويضع الإصبع على الجرح مهما كان عمقه.

هو الإعلامي الذي صنع أثره لا بضجيج الشعارات، بل بصلابة الموقف وجرأة الفكرة، والكاتب الذي أثبت أن الكلمة يمكن أن تكون سيفاً حين يلزم، ووردة حين يسمح الزمن بالسلام.

سعد البزاز—قلمٌ كلما كتب، اهتزّ الركود؛ وصوتٌ كلما تكلم، ارتفعت حرارة المشهد. وأثرهُ الثابتُ يفوقُ ما تُروِي الكلماتُ وحدها.

 


مشاهدات 30
الكاتب ياس خضير البياتي
أضيف 2025/12/03 - 5:32 PM
آخر تحديث 2025/12/04 - 2:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 93 الشهر 2410 الكلي 12786315
الوقت الآن
الخميس 2025/12/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير