نهاية تاريخ العراق (11)
إعادة ضبط مؤسسات القوة
منقذ داغر
(الفكرة هي شيء تمتلكه،أما الآيدلوجيا فهي شيء يمتلكك) موريس بيرمان،مؤرخ وعالم أجتماع
(يمكنك سجن الأنسان ولكن ليس الفكرة،ويمكنك نفي أنسان ولكن ليس الفكرة،ويمكنك قتل أنسان ولكن ليس الفكرة) بناظير بوتو
انتهينا فيما سبق الى أن التغيير بعد 2003 لم يشمل مؤسسة العنف (القوات المسلحة) لوحدها في العراق،بل شمل أيضاً مؤسسات القوة الأجتماعية الثلاث الأخرى(الآيدلوجيا،والسياسة والأقتصاد).فعلى صعيد الآيدلوجيا،بات الفكر السياسي الديني هو المتحكم بسماء الآيدلوجيا في العراق بعد أن كان منحسراً لمدة طويلة على حساب الفكر القومي والأممي. وبعد الفشل الذريع للقومية العربية،والذي صاحبه أخفاقات أمنية وأقتصادية وأجتماعية كبرى،كان هذا الفكر هو الأكثر تهيؤاً لملء الفراغ الفكري. ولم يصعد الفكر السياسي الديني بسبب الفراغ الفكري الذي تركه فشل القوميين،وضعف الأمميين فحسب،بل بسبب الفراغ المؤسسي الذي تركه سقوط النظام السابق. لقد كانت التنظيمات الحزبية الأسلامية هي الأكثر تنظيماً وأستعداداً لملء الفراغ الآيدلوجي في العراق. وأذا كان الأخوان المسلمين في العراق قد فشلوا في أن يصبحوا رقماً مهماً في المعادلة السياسية بسبب رفض حاضنتهم (السنية) لمشروعهم الأسلاموي من جهة،ولظروف داخلية وخارجية من جهة أخرى، فأن الأحزاب الأسلامية(الشيعية) نجحت كثيراً في أستثمار الفراغ الفكري والتنظيمي بخاصة وأنها كانت مدعومة بحاضنة شعبية تواقة لأستلام السلطة،بعد أستبعادهم منها لقرون،فضلاً عن الدعم الذي تلقته،بأشكال مختلفة،سواءً من المؤسسة الدينية في النجف الأشرف،أو من النظام السياسي والديني في أيران،أو حتى من قبل أمريكا في بداية الأحتلال. لقد أدى ذلك بمجمله الى تغييرات كبرى في موازين القوى لصالح الآيدلوجيا الدينية،بخاصة (الشيعية) منها. وبدون الخوض في التفاصيل المعقدة لما جرى والتي يمكن تناولها في دراسة لاحقة،الا أنه يكفي لأغراض هذه الدراسة القول بأن المؤسسة الآيدلوجية الدينية باتت الحاكم الفعلي لعراق مابعد 2003.
صعيد سياسة
ونظراً لقوة المؤسسة الدينية في العراق فقد تأثرت مؤسسات القوة الثلاث الأخرى (السياسة والأقتصاد والقوات المسلحة) بشدة بتلك القوة. فعلى صعيد السياسة مثلاً، أستبدل النظام الجديد عُلوية الأنتماء لحزب البعث ونظامه الحاكم،بعُلوية الأنتماء للطوائف وممثليها السياسيين. ولم يقتصر الأمر على(الشيعة) كما قد يتبادر للذهن،رغم أنها الحالة الأكثر وضوحاً،لكن تطييف وأدلجة السياسة أمتدت للسنة والكورد ليصبح الأنتماء-لا العدالة أو المساواة،أو حتى الكفاءة- هو المعيار الأهم للحكم.وحلت المحاصصة محل الحكم الرشيد،وعضوية الجماعة أو الآيدلوجيا محل المواطنة، وخدمة الطائفة قبل خدمة الوطن. وحلت الهوية الطائفية والعرقية محل الهوية العراقية.
أما على صعيد القوة العسكرية فقد باتت لدينا منظومتين عسكريتين متنافستين. الأولى هي التقليدية التي تخدم فكرة الوطن الواحد ذي الحدود الوطنية المعروفة.أما المنظومة الثانية فهي تخدم فكرة الوطن العابر للحدود،والخادم للمذهب أوالعقيدة أوالآيدلوجيا(سواءً الدينية أو القومية).
هذه الثنائية في الخدمة،أمتدت للسياسة والأقتصاد أيضاً. فبات لدينا منظومة سياسية بجسد عراقي وفكر عابر للحدود. قد يعتقد البعض مرة أخرى أني أقصد المنظومة السياسية (الشيعة) فقط كونها الأكثر وضوحاً هنا،لكني في الواقع أشير أيضاً الى المنظومة السياسية(السنية) التي باتت كثير من مكوناتها مقتنعة بأن الأنتماء،أو الأصح التبعية، للفواعل السياسية الأقليمية (السنية)أهم من التبعية لبغداد.
ونفس الشيء يشمل المنظومة السياسية(الكوردية) التي تعتقد أن آيدلوجيتها القومية هي التي يجب أن تتحكم بمنظومتها السياسية.أشير هنا الى أني لا أناقش صحة أو خطأ تبعية السياسة(الشيعية أو السنية أو الكوردية) للآيدلوجيا التي يؤمنون بها،بل أصف الوضع الذي بات عليه توازن القوى بين المؤسسات الأربعة(الآيدلوجيا،والسياسة والأقتصاد والقوة المسلحة).
ولم يكن نصيب المؤسسة الأقتصادية أفضل،فهي كما وصفتُها أكثر من مرة،باتت مؤسسة «فرانكشتانية» بجسد حكومي أشتراكي مثقل ومترهل،وعقل مؤدلج ،وقلب ريعي ضعيف،وروح لا هي أشتراكية ولا رأسمالية. الخلاصة فأن الآيدلوجيا سيطرت على كل شيء في العراق الجديد.
ومعروف من تجارب الشعوب أن الدولة التي تسيطر فيها مؤسسة قوة واحدة على باقي المؤسسات فأنها ستعاني كثيرا. وكما يؤكد عالم الأجتماع مايكل مان Michael Mann فأن سيطرة أي من القوى الأجتماعية الأربع على بقية القوى سيؤدي الى نظام سلطوي أو ديكتاتوري. والواقع أن العراق قد خبر طويلاً سيطرة أحدى تلك القوى على الأخرى.فقد سيطرت المؤسسة العسكرية تارةً على كل القوى الأخرى.
كما سيطرت القوى الآيدلوجية(البعث) لمدة طويلة على القوى الأخرى. وفي كلتا الحالتين كانت الديكتاتورية والسلطوية هي المتحكمة بحياة العراقيين،ولا يبدو أننا قد أستفدنا من الدرس.
حالة فوضى
أن العراق الذي دشن تاريخاً جديداً بعد 2003 بحاجة ماسة لأعادة ضبط موازين قواه الأجتماعية الأربعة(الآيدلوجيا،والسياسة،والأقتصاد،والقوة العسكرية). وأذا بقت الآيدلوجيا هي المتحكمة بالعراق الجديد فأن عصوراً من الشمولية وتكفير الآخر ورفضه، واللامساواة واللامواطنة واللا عدالة،هي التي ستسود.
وما يعانيه العراق حالياً من حالة فوضى ما هي في الواقع الا مظاهر لمعارك كامنة بين مؤسسات القوة الأجتماعية الأربعة لضمان سيطرة كل منها على الآخر. ومالم يعيد العراقيون كتابة عقدهم الأجتماعي بطريقة تضمن توازناً نسبياً بين تلك القوى الأربعة فلن يستقر العراق.