الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العزلة والروتين في حياة  الإنسان المعاصر

بواسطة azzaman

العزلة والروتين في حياة  الإنسان المعاصر

منتظر عبدالرحمن

 

في عام 1968، أصدر الكاتب الأمريكيّ تشارلز بوكوفسكي روايته “مكتب البريد”، والتي تُعتبر واحدةً من أهمّ أعماله الأدبيّة. تدور أحداث الرواية حول شخصية هنري تشيناسكي، الموظف البسيط الذي يعمل في مكتب البريد، ويعيش حياةً مليئةً بالملل والروتين اليوميّ القاتل. من خلال تصويره الدقيق لحياة تشيناسكي، يُقدّم بوكوفسكي رؤيةً نقديّةً للعزلة التي تخلقها الأنظمة البيروقراطية، وتأثيرها السلبي على الروح البشرية.

في إحدى اللحظات المحورية في الرواية، يصف تشيناسكي كيف يمرّ عليه يوم العمل ببطء شديد، حيث يقف في الطابور بانتظار دوره لتوزيع الرسائل، ويشعر بأن حياته قد اختزلت إلى هذه اللحظات المتكررة والمملة. يقول: “كان اليوم مجرد نسخة مكررة من الأيام التي سبقته، والوقت يمضي ببطء شديد كما لو أنني أعيد نفس المشهد مرارًا وتكرارًا.” هذا الشعور بالتكرار والرتابة يعكس حالة من العزلة والانفصال عن العالم المحيط، حيث يصبح الإنسان مجرد ترس صغير في آلة كبيرة.

من ناحية أخرى، نجد في أعمال الفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدغر مفهوم “الاغتراب”، الذي يتناول فيه إحساس الفرد بالغربة في عالم حديث يطغى عليه الطابع التكنولوجيّ والاستهلاكيّ. في كتابه “الوجود والزمان”، يصف هايدغر كيف أن الإنسان المعاصر يعيش حالة من “السقوط” في حياته اليومية، حيث يفقد الاتصال بجوهر وجوده الحقيقيّ وينغمس في الحياة السطحية التي تفرضها عليه الثقافة السائدة.

يقول هايدغر: “الاغتراب هو أن يعيش الإنسان بعيدًا عن ذاته، غارقًا في عالم ماديّ يجعل من الوجود شيئًا تافهًا لا معنى له.” وفقًا لهايدغر، فإن هذا الاغتراب يؤدي إلى شعور عميق بالقلق والفراغ الداخليّ، حيث يفقد الإنسان قدرته على التواصل مع ذاته ومع الآخرين، ويصبح ضحيةً للعزلة والوحدة.

تلتقي رؤى بوكوفسكي وهايدغر في نقطة محورية، وهي تأثير الحياة الروتينية والمادية على الإنسان، وكيف تسهم في خلق شعور عام بالاغتراب والعزلة.

في “مكتب البريد”، نرى كيف أن تشيناسكي، رغم كفاحه المستمرّ للهروب من هذه الحياة الروتينية، يجد نفسه محاصرًا في دائرة مفرغة من التكرار واليأس. وبالمثل، يشير هايدغر إلى أن الإنسان المعاصر، رغم محاولاته للعثور على معنى لحياته، يظل عالقًا في شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تعزّز شعوره بالاغتراب.

من خلال هذه الأعمال، نتلقى دعوةً للتفكير بعمق في تأثير الحياة المعاصرة على النفس البشرية، وكيف يمكن أن تؤدي إلى العزلة وكراهية الذات.

 إنهما يشددان على أهمية البحث عن معنى حقيقيّ في الحياة، والابتعاد عن السطحية والتقليدية التي تفرضها علينا المجتمعات الحديثة.

من خلال استعراضنا لرواية “مكتب البريد” وأفكار هايدغر حول الاغتراب، نجد أنّ كلاهما يشير إلى أنّ الروتين اليوميّ والتكرار المستمرّ يمكن أن يسلبا الإنسان جوهره الحقيقيّ، ويدفعاه إلى حالة من الفراغ الداخليّ.

 تشيناسكي، بطل رواية بوكوفسكي، هو رمز لهذا الشخص الذي يعيش في ظلّ حياة مفروضة عليه، حياة يفتقر فيها إلى الشغف أو الإلهام. كذلك، يشير هايدغر إلى أنّ الإنسان المعاصر يفقد ارتباطه بالمعنى الأصيل لوجوده، ويغرق في عالم ماديّ يعزز الشعور بالاغتراب والعزلة.

هذه النظرة المتشائمة للعالم الحديث لا تعني بالضرورة أن الحلول غير موجودة. فبوكوفسكي، رغم سوداوية روايته، يعرض لحظات من التمرد والرفض للواقع، ما يفتح نافذة على إمكانية الخروج من هذا النمط الحياتيّ القاتل.

وبالمثل، يرى هايدغر أنّ استعادة الذات الحقيقية والابتعاد عن الحياة السطحية يمكن أن يتمّ من خلال التأمل العميق والعودة إلى “الكينونة” الأصيلة.

إذا تمكّن الفرد من الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ومواجهة مشاعر العزلة والاغتراب، فإن ذلك سيفتح أمامه آفاقًا جديدةً لحياة أكثر إشراقًا وارتباطًا بالذات والآخرين.

يقدم كلٌّ من بوكوفسكي وهايدغر رؤيةً تُحفّز على التفكير والتغيير، وتدعو إلى البحث عن حياة تتميّز بالمعنى الحقيقيّ والاتصال العميق مع النفس.


مشاهدات 73
الكاتب منتظر عبدالرحمن
أضيف 2024/09/28 - 12:40 AM
آخر تحديث 2024/09/28 - 6:22 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 319 الشهر 40114 الكلي 10028736
الوقت الآن
السبت 2024/9/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير