نهاية تاريخ العراق (6)
بين تلفزيوني القناة العامة والشباب
منقذ داغر
«الجمهور المثالي للنظم الشمولية هم ليسوا النازيين أو الشيوعيين،بل أولئك الذين لا يميزون بين الواقع والخرافة،وبين الزيف والحقيقة» حنا أرناديت Hannah Arendt
في الوقت الذي كانت فيه الدبابات الأمريكية الغازية على أبواب بغداد،كان العراقيون يشاهدون «منقاش» ذلك الفلاح الكربلائي وهو يتباهى ب»البرنو» الذي أسقط «الأباتشي» الأمريكية. وعندما دخل «العلوج» أبواب بغداد الغربية كان الصحاف يهتف «يامحلى النصر بعون الله»،وعندما كان أولئك العلوج يسقطون تمثال صدام في ساحة الفردوس كنتُ أرتدي بدلتي العسكرية،معزولاً عن الواقع، أدير مؤشر «راديو الترانزستور» على محطات مختلفة علّي أجد خبراً يبشرني بأندحار الحلف الأنجلو صهيوني الأمبريالي الغربي المجرم الكافر المترنح الخائف المندحر!! وفي الوقت الذي كان فيه كل العالم وهو يشاهد حبيبتي «بغداد» يغتصبها الغزاة،كان العراقيون معزولون في صندوق أسود لا يرون الا ما يريهم النظام ولا يسمعون الا أزيز الطائرات وهدير الأنفجارات ولا يبصرون الا وميض انيران وهي تلتهم مدنهم وشوارعهم وبيوتهم.
قناة تلفزيونية
لقد كان العراقيون يعيشون في كهف أفلاطون الشهيرعندما داهمت الألفية الثالثة بيوتهم.وحينما قرر النظام تدشين قناة تلفزيونية جديدة (الشباب) في بداية تسعينات القرن الماضي عُدّ ذلك مكسباً ونصراً مؤزراً أذ أتيح للعراقيين خيار تلفزيوني آخر،على الرغم من أدراكهم أنه يتبع النظام أيضاً. لكن سياسة «أحسن من الماكو» المهدِئة والمخدِرة والتي تعود عليها العراقيون،وما زالوا، جعلت تلفزيون الشباب «نعمة من الله»، أو من النظام!! وحينما أنتشرت تقنية «الستلايت» في كل العالم كان العراقي الذي يستطيع شراء وتهريب هذا الجهاز يحبس أذا القى جنود «الأخ الأكبر» القبض عليه. وفي الوقت الذي كان فيه ثلث سكان الأمارات تقريباً وربع سكان الكويت يتمتعون بالوافد التكنولوجي البكر (الأنترنيت) كان صفر من العراقيين لديهم أنترنيت. وفي الوقت الذي كان فيه واحد من كل 2.5 مواطن في قطر لديه هاتف نقال عام 2003 كانت نسبة من يمتلكون هواتف نقالة في العراق 0 بالمئة . ونفس الأرقام تصح تقريباً عن نسبة العراقيين الذين يمتلكون حاسوباً شخصياً مقارنةً بأقرانهم العرب. وحتى في مجال الأتصالات الهاتفية الأرضية فقد كانت عائلة عراقية واحدة فقط من كل 4-5 عوائل تمتلك هاتفاً في بيتها! بأختصار فقد كانت الأتصالات الجماعية الوحيدة المتوفرة هي أجهزة الأعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة وهذه جميعها مسيطر عليها من الدولة ولها لون واحد وخطاب واحد وليس فقط مالك واحد. بمعنى ان العراق لم يكن دولة ريعية بالمفهوم الأقتصادي فحسب،بل كان دولة ريعية بأمتياز بالمفهوم الأعلامي حيث مصدر واحد للمعلومة يتم توزيعه على كل المستهلكين.
في كتابي الذي نشرته العام الماضي(ثقافة التصلب:منظور جديد لفهم المجتمع العراقي) أشير الى أن الأختبارات النفسية التي أُجريت في أكثر من 50 دولة في العالم أن العراقيين هم ليسوا فقط أكثر شعب متصلب ثقافياً،بل وأنهم يعانون من فرط التصلب Hyper tightness .وعلى الرغم من أن للتصلب كثير من الأنعكاسات الأيجابية على الحياة الأجتماعية عموماً،الا أن فرط التصلب يفقد المجتمع المرونة في التعامل مع الأزمات. فالعراقي(ككل المتصلبين ثقافياً) : يكره المجهول ولا يجيد التعامل معه( أمشي شهر ولا تطفر نهر). ويحب التراتبية ولا يستطيع العيش بدونها(من ليس له كبير يشتري كبير،والناس مقامات). ويحب الطاعة(أطيعوا ولو أُستُعمل عليكم عبدٌحبشي). ويعشق القائد القوي(مالك هيبه يلمالك شر).وهو غير متعود على المبادرة الفردية ويحبذ التحرك الجماعي(وهل أنا الا من غزية ،أن غوت غويتُ وأن ترشد غزية أرشد). أن المتصلب يريد قوانين كثيرة وتفصيلية ولا يحب الغموض،والحياة لديه أما بيضاء أو معتمة! أنه حذر جداً ويحب أن يكون كل شيء في حياته مسيطَرٌ عليه من قبل الجماعة أو القيادة( شَين التعرفه أحسن من زين الماتعرفه). هذه السمات الثقافية المميزة لكل الشعوب المتصلبة،وفي مقدمتها العراقي، تجعل تقبله للتغيير صعب جداً،ويغدو كالعود الصلب الذي يكسر بسهولة أكبر من العود الرطب(المرن)،رغم أنه يتحمل ثقلاً أعلى. فلولا هذه الصلابة لما تحمل العراقيون كل ما تحملوه،لكن هذه الصلابة تجعلهم أكثر هشاشةً تجاه التغيير. من جانب آخر فقد تأسست الدولة العراقية لتلائم الثقافة العراقية المتصلبة. وبذلك فقد مثلت الدولة في العراق الرابط الرئيس للعراقيين أذ أنها المصدر الرئيس لأمنهم،وأقتصادهم،ومعلومتهم ومعظم شؤونهم.
لحمة سياسية
وعلى الرغم من مشاكل هذا المدخل في أدارة شؤون المجتمع،الا أنه يجب القول أنه كان ناجحاً-مع كثير من الأخفاقات أيضاً- في أدامة اللحمة السياسية والأجتماعية والأقتصادية للجماعات المتباينة داخل المجتمع. أن كثرة القوانين والتعليمات ووضوح الممنوعات والمسموحات،ووجود القائد القوي، وسيادة الوظيفة العامة التي تتجنب المجازفة والمجهول،والتراتبية القوية والواضحة في العمل والأسرة والقبيلة بل وحتى في العبادات،جاءت كلها لتتناغم مع عقلية العراقي التي بُنيت بهذه الطريقة لأسباب تاريخية موضوعية شرحتها تفصيلاً وبالأرقام في كتابي أعلاه. من هنا فقد نجحت مؤسسات الدولة(التعليم والقضاء والجيش وأدارة الأقتصاد والدين)،والتي كانت جميعها تخضع لأرادة واحدة،في ربط كل مكونات المجتمع المتباينة بروابط وطنية كلية ومتشابهة. وبغض النظر عن الرأي بتلك الروابط،فقد كان الجميع يدرس في نفس المدارس والجامعات،ويخدم في نفس الجيش،ويخضع لنفس القانون،يتقاضى أمام نفس القضاء،ويستهلك نفس المعلومات.لا بل أن ظاهرة صلاة السنة في حسينيات الشيعة وصلاة الشيعة في مساجد السنة،تلك الظاهرة التي باتت نادرة اليوم،كانت شائعة بكثرة آنذاك. وعلى الرغم من وجود بعض الفروق المحسوسة بين الفقراء والأغنياء الا أن تلك الفروق لم تكن كبيرة ،أو على الأقل ملموسة علناً سواءً في الملبس أو المطعم أو السكن أو حتى السيارات. وكان الفرق بين سعر الدار في مدينة «الثورة» وشارع الأميرات أو المأمون أقل بكثير من الفرق بينهما في يومنا هذا. والحقيقة فأن كل النظم الشمولية والدكتاتورية تمتاز بتوزيعها لمخرجاتها (السلبية أو الأيجابية) بمساواة أكبر بين المجتمع،لأنها تهتم بالضبط أكثر من الحرية. أن العراقي حين يحن للماضي فأنما ذلك-في جزء منه وليس كله- نابع من أن ذلك الماضي يتفق مع نظامه الثقافي الفكري الذي يهوى التأكد (حتى ولو لم يكن خيراً)ويكره المجهول(حتى لو لم يكن شراً).
أن هذا التصلب الثقافي العراقي،المصحوب بأعتماد شديد على الدولة، والعزلة التامة عما يجري خارج العراق وبخاصة في مجال التكنولوجيا،والريعية الأعلامية والأقتصادية للمجتمع،ضاعفت من التأثير المدمِّر لزلزالَي الأحتلال والتعرض للتكنولوجيا.من هنا فقد أدى سقوط النظام بعد الأحتلال الى كثير من العواقب نتيجة لتفتت احد اهم الروابط التي تربط بين مكونات المجتمع،بخاصة وأن من جاء بهم الأحتلال ليحكموا العراق تعاملوا معه على أساسهم المكوناتي وليس على أساسهم العراقي،والفرق كبير بين الأثنين.