أذن وعين
عندما يخدعنا سراب الزمن الجميل
عبد اللطيف السعدون
مرة كنت عابرا المحيط بين كاراكاس وباريس، تمنيت جليسا يحاورني وأحاوره في أمور الدنيا والناس، وقد كنت محظوظا حين وجدت جاري منكبا على قراءة كتاب لغته على غير ما أعرف، لكنني لمحت في عنوانه كلمة «لبنان»، جعلني ذلك أستعجل التعرف اليه والحوار معه، لكن فضولي تأنى، وأنا أقتل الوقت بالنظر من نافذة الطائرة ومحاورة هذا الكون المدهش والمثير، ثم ما لبث الصمت أن أنقطع عندما كف رفيق سفري عن القراءة، وحدق في وجهي، كأنما كان يستعجل فضوله هو الآخر ليتعرف الي، واكتشفت أنه فنزويلي من أصل لبناني، وأن كتابه الفرنسي اللغة يبحث في تاريخ لبنان، وقدرت أن أسمع شيئا «طازجا» عن لبنان، لكنه أخذني الى التاريخ، ليشرح لي كيف تتحول شخصيات التاريخ الى رموز، نستدعيها ونستنجد بها، عندما تحيط بنا النوائب والانهيارات، لتمنحنا متعة الحلم وطاقة التصدي لما يحدث، وقدم مثالا على ما يقول في شخصية الأمير فخر الدين ابن معن الذي يجمع اللبنانيون على ريادته، ويعدونه مؤسس لبنان الحديث، حيث بنى أواخر القرن السادس عشر دولة عصرية، استمرت أكثر من أربعة عقود ونصف الى أن أخضعها العثمانيون، وأدخلوها في حضيرتهم من جديد.
إستنهاض الهمم
وباغتني الشاب اللبناني- الفنزويلي بسؤال احترت في الاجابة عليه، قال لي : « هل تعرف كيف تحول ابن معن الى رمز يستدعيه اللبنانيون لاستنهاض الهمم وسط الانقسامات الحادة التي يعانون منها؟» وتابع: «ان السر في رمزية ابن معن أن أحدا في لبنان لا يعرف ديانته ولا مذهبه، فهو مسلم سني في بعض الكتابات، ومسيحي ماروني في أخرى، ودرزي في ثالثة، ولو عرفوا هويته لانقسموا من حوله بين نصير وخصم، ولفقد رمزيته.»
صمت محدثي وكأنه أدلى بفصل الخطاب، قلت له «ان الذاكرة التاريخية عادة ما تكون انتقائية، وساعية لرؤية الأحداث والمشاهد عن بعد، وبما يسمح بقدر من التلاعب بخلفياتها، ويضفي عليها قدرا مناسبا من الجاذبية»، وتابعت «ان الناس العاديين الذين تشغلهم همومهم اليومية يرون فقط تاريخ القادة والابطال، وتعجبهم أساطير البطولة وصفات التفرد التي غالبا ما يتم اسباغها على أولئك القادة والزعماء الذين سرعان ما يتحولون الى رموز، فيما يتم تجاهل تاريخ المجتمعات والشعوب التي تتحول في الذاكرة الانتقائية الى كم مهمل.».
عاد الشاب اللبناني- الفنزويلي ليذكرني بأن أساطير البطولة وقصص الأمجاد السالفة تمنحنا قدرا من الرضا عن أنفسنا اذ أنها تجعلنا نشعر بأننا ابناء أولئك الرجال العظام الذين حققوا كل تلك الانتصارات، وأننا نكتسب نقاءنا وشرعيتنا من كوننا من نسلهم، وان ذلك يشبه « بطاقة الهوية « التي نجترحها لأنفسنا، لتحولنا من أرقام الى عناصر فاعلة ونشيطة.
قلت له: «ان «بطاقات الهوية» عادة ما تكون ذات صلاحية محدودة، ولزمن محدود طال أم قصر، وقد يشكل ذلك نوعا من المفارقة التاريخية التي لا تخدم في تعويض حاضرنا بماضينا ولا في معالجة ما ينتابنا في هذه المرحلة من أدواء وأوجاع».
قلة وعي
تابعت: «يحدث أيضا أن تحول الشعوب حكامها الى رموز، على غير استحقاق، نتيجة قلة وعيها وغرقها في أنماط عبودية سالفة، هذا ما حدث معنا طيلة نصف قرن أهدرناه في صنع طغاة حكمونا بالنار والحديد، وأغرقوا بلداننا بالدم ، وأورثونا كل هذه الانهيارات والمآسي، لكننا، ويا للغرابة، صنعنا منهم رموزا، ومنحناهم مكانة لا يستحقونها، وها نحن, وسط هذا الخراب، نستدعيهم ونستنجد بهم، وكأنهم لم يكونوا سبب هذا الخراب وأصله، في استدعائهم والاستنجاد بهم نحلم بساعة خداع نفسي ننتشي فيها، نصبح فيه أسرى لزمان جميل نلوك أخباره، ونذكر للحاكم أفضاله علينا، ومكارمه عندما كان ينوب عنا في تقرير مصائرنا، ورسم خطوط حياتنا، وغفران أخطائنا وخطايانا، صنعنا منه ديكتاتورا، جعلنا منه نصف أله، صفقنا لهزائمه ورأينا فيها انتصارات، هتفنا بحياته ولم ندرك أن في حياته موتنا المؤكد، وفي نهاية المطاف اكتشفنا أننا خدعنا على النحو الذي حدثنا عنه أحمد عبدالمعطي حجازي:
هل خدعت بملكك حتى حسبتك صاحب المنتظر
أم خدعت بأغنيتي،
وانتظرت الذي وعدتك به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسراب الزمان الجميل؟
أجل .. خدعنا بسراب الزمان الجميل، وها نحن ندفع ثمن خداعنا، نموت ببطء!»
صمت كلانا، وشرعنا معا في النظــــــر عبر نافذة الطائرة في تأمل مقلق!