يوميات الحرب في لبنان.. عندما تغيب الشمس يبدأ الخوف بالتسلل
غفران حداد
ما عادت صباحاتنا تستفيق على صوت فيروز ورائحة القهوة التي تطل من شرفات شققها السكنية ، والابتسامات تسبق التحية الصباحية لكل واحد منا ، ونحن ذاهبون إلى العمل ،بل اصبح يومنا يبدأ بتصفح قنوات الأخبار ومتابعة آثار الدمار التي تشنها غارات العدو الإسرائيلي على قرى الجنوب ومناطق الضاحية لبيروت ، نتابع بحزن كبير دمار الشقق السكنية ومناظر الثكالى والجرحى ، وتزايد ارقام الشهداء، اليوم أصبحت مناطق لبنان مدن أشباح ، نزح منها مئات الآلاف لساكنيها ولم تعد أرضاً صالحة للعيش ، خاصة مع بدء الهجوم البري للعدو .
كنا نتابع اخبار غزة وتمنينا ايقاف الحرب هناك وقلوبنا تعتصرها الألم بما حلّ بالشعب الفلسطيني من قتل وتهجير ونزوح وخسائر في الأرواح والممتلكات، لكن اليوم يريد العدو الصهيوني جعل بيروت وضواحيها غزة ثانية ، للأسف دخل الشعب اللبناني في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، ولنكن صريحين ان قرار الحرب مع العدو الإسرائيلي هو قرار حزب الله وليس قرار الدولة اللبنانية ولطالما سعت الأخيرة للتهدئة ووقف إطلاق النار، لمنع وقوع ضحايا بين شهيد وجريح ونازح مثلما يحصل اليوم
ولكن الحزب متمسك بقرار المواجهة مع العدو الإسرائيلي ومتمسك بالقتال ضده رغم ان الأخير متفوق عليه في السلاح وعلى الرغم ايضا من اغتيالاته المتكررة لكبار قادة الحزب وعلى رأس القائمة اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله .
مواد غذائية
لقد كنت من ضمن آلاف الأمهات اللبنانية والعربية اشترينا المونة استعداداً للحرب وكل عائلة تخزن الحبوب والمواد الغذائية الجافة التي من الممكن ان تصمد طويلاً مع هذه الأيام السود التي بدأت ولا نعلم متى ستنتهي ، وهل سنكون مع نهايتها في عداد الأحياء أو الأموات؟
نحن العراقيين المغتربين اعتدنا الأزمات والحروب في بلدنا الأم رغم تحسن الوضع الأمني والاقتصادي مؤخراً بشكل كبير في بغداد وبقية المحافظات ، لكن ربما لا ينبغي أن نعتاد هذه الأزمات في المهجر أيضا وليس طبيعياً أن تكون حالنا أن نعتاد دائماً على الأزمات ومن غير الطبيعي أيضاً أن ينشأ أولادنا في بيئة مليئة بالقلق والهلع.
ربما إنني قوية بعض الشيء ، لكنني خائفة من هذه الحرب و طفلتي الصغيرة خائفة أيضا، تسألني كل ليلة عن مصدر اصوات انفلاق الصواريخ وأزيز الطائرات ، فأردد الكذبة ذاتها ، إنها مفرقعات لحفل زفافٍ في الحي القريب من بيتنا ، فتهدأ عندما ترى ابتسامتي المزيفة و المشهد التمثيلي المتكرر كل ليلة وأنا أمثّل دور السعيدة بينما روحي تتمزق .. تتشظى لسماع آلة القتل التي تحاصرنا من الجو والبر .
كنت جهّزت حقيبتي لطارئ تهديد أو انذار بإخلاء المدينة مثلما يحصل مع الكثير من المدن المستهدفة لقد جهزت بعض الأدوية، علبة حليب، أوراقي الثبوتية ،و جواز سفر لا اظن سأستخدمه في ظل إلغاء جميع الشركات رحلاتها من وإلى مطار رفيق الحريري الدولي لقد وضّبت الحقيبة نفسها مرّات عدة منذ الثامن من أكتوبر، في كل مرّة سمعنا فيها أن الأمور ساءت أو ستسوء، نوضبها، ثم نفرغها، ثم نحضّرها مجدداً وهكذا لكن يبدو هذه المرّة غير كل المرات. يحزنني مغادرة معظم جاراتي في العمارة التي أسكنها بسبب هذه الحرب ، وبعد بكاء ومواساة لهذا الوداع الإضطراري تعانقني إحداهن بقوة وهي تقول : «إنتبهي ع حالِك وخلينا عالواتس آب متواصلين «، فيما تطلب الأخرى أن نأخذ صورة سيلفي سوية قائلة : «بركي ما عدنا شفنا بعض». عندما تغيب الشمس عن بيروت، يبدأ الخوف بالتسلّل الى قلوبنا كل ليلة، نتهيّأ لأصوات الغارات ولصدى القنابل الفراغية والارتجاجية الخارقة للتحصينات لقد أصبحت رفيقة ليالينا
، تمزق هدوء ضواحي بيروت الجنوبية، ولا تفرق بين الحجر والبشر، لقد أصبح حرماننا من النوم ، معركة إضافية نخوضها في هذه الحرب ، نخاف ان ننام لأننا سنستيقظ على إهتزازات القنابل ولو غفونا قليلا ستزورنا قصص شوارع بيروت وكل زقاق فيها يسرد لي اوجاعه هذا المبنى قبل أن ينهار كان مليئا بضحكات وثرثرات الزبائن والسيّاح ، وهذه السيارة المحطمة كان يقودها شابا مليئا بالطموحات والأحلام .
رصيد جديد
ملامح وجه بيروت الذي كان نابضاً بالحياة والجمال أصبح كهلاً في أيام ، بلحظة واحدة، أصبح، لدى كل مواطن في هذه البلاد، رصيد جديد من ردود الفعل الغريبة. فجأة، اختفى اللون من وجوه البعض، ظهرت الهالات السوداء على الوجوه، تورّمت العيون وسال الدمع الجاف.عشرات العوائل تفترش الطرقات دون مأوى بعد ان ملئت المدارس الحكومية وبعض مراكز الإيواء بالنازحين من الجنوب الذي فاق عددهم المليون نازح ،لقد ارتفعت إيجارات العقارات بشكلٍ خيالي فأكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب، هذه لغة الطمع لمالكي العقارات ثابتة في جميع الأزمات ، وفي ظل تزايد حاجة العوائل الهاربة من نيران الحرب لمنزل يأويهم ولو كان خربة لا يحمل مقومات العيش الكريم ،في المقابل رأينا طيبة وكرم الكثيرين في فتح ابواب منازلهم لإيواء النساء والأطفال ، والبعض منهم تقاسم قوته وملابسه مع ابناء بلده ، كان هنالك تكاتفاً انسانياً جميلاً ، وحتى الدول العربية الشقيقة في مقدمتهم العراق والإمارات ومصر قدموا المساعدات الطبية والغذائية، مواقف إنسانية نفتخر بها وترفع لها القبعة . لكن متى ستنتهي هذهِ الحرب ؟ متى يبدأ العام الدراسي ويفتح ابوابه لأبنائنا ؟ متى يعود النازحين لمنازلهم لقد قتلتهم فكرة الغياب عن ديارهم بكل ما فيه ، اشتاقوا لتفاصيل يومياتهم البسيطة غياب صبحية العائلة، وكزدورة العصر، وسهرة العائلة، صوت العصافير صباحاً ، شجرة الزيتون والورود التي تملء المكان، الهواء النقي ، متى يعود الجميع لحياتهم الطبيعية ، نريد الحياة .