في ذكرى وعد بلفور المشؤوم.. العروس الجميلة تقاتل من أجل حريتها
قتيبة آل غصيبة
تمر علينا هذه الايام؛ الذكرى 107 على وعد بلفور المشؤوم؛ إذ لاتزال تداعيات وعد بلفور تعتبر محورا أساسيا في تشكيل الوضع الحالي في الشرق الأوسط؛ وإن آثاره السلبية تلقي بظلالها على الشعب الفلسطيني بصورة خاصة وعلى دول وشعوب المنطقة بصفة عامة؛ أن وعد بلفور لم يأتي مصادفة؛ فكل الاحداث السياسية عبر التاريخ؛ ناتجة عن تراكمات ومقدمات سبقتها وحفزتها لصناعة تلك الاحداث ؛ فوعد بلفور أتى نتيجة عمل مدبر وماكر؛ امتد على نحو اكثر من قرنٍ من الزمان؛ استخدم فيها يهود أوروبا مختلف أساليب المكر السياسي والاقتصادي لتحقيق حلمهم؛ على حساب الفلسطينيين أصحاب الحق والأرض؛ وتشير المصادر؛ ومنها كتاب الصحفي الراحل؛ «محمد حسنين هيكل؛ ت:2016»
(الاسطورة والامبراطورية والدولة اليهودية)؛ الى بدايات مشروع إنشاء الكيان الصهيوني؛ مُعبرا عنه بأنه كان (خريطة تبحث عن أرض)؛ فبعد ان تمكن «نابليون بونابرت؛ مات 1821»؛ من غزو مصر واحتلالها في 1798؛ قام بمحاولة غير ناجحة؛ للهجوم على فلسطين من الجنوب؛ وحاصر مدينة عكا؛ ومع بدء حملته هذه والتي كان مصيرها الفشل والهزيمة من ارض فلسطين ثم مصر؛ عَمِلَ على إرضاء اليهود في أوروبا سعياً لكسب المزيد من الدعم لحملاته العسكرية فخاطب اليهود :(أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة؛ إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل؛ سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم..) ؛ وقد نشر نابليون بيانا؛ يدعو فيه كل يهود آسيا وأوروبا للقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسية؛ وتحول نداء نابليون إلى خبر رئيس في الصحف الفرنسية؛
فقد كان يهدف الى السيطرة الاستعمارية على المنطقة من خلال تجميع اليهود في فلسطين بعد أن كانوا مشتتين بين اوربا وأسيا ؛ واستمالتهم له خدمة لمشروعه الاستعماري بالسيطرة على المنطقة وقناة السويس والتي بدأت فكرتها في 1798.
نفوذ بريطاني
بعد احتلال فرنسا لمصر؛ وإضعاف نفوذ بريطانيا في تلك المنطقة؛ بعدما تحالفت مع الدولة العثمانية ضد روسيا القيصرية وقتذاك ؛ فإذا تم إقامة دولة يهودية برعاية فرنسا في فلسطين فتلك هي نقطة البداية المهمة لخططها الامبراطورية في قلب املاك الدولة العثمانية؛ واذا نجحت هذه التوجهات؛ فإن فرنسا تكون قد بدأت عملية إرث الدولة العثمانية؛ وتكون قد حصلت على النصيب الاكبر من التركة؛ قبل ان تنتبه القوى الاخرى وتتحرك؛ وحتى إذا تحركت؛ فإن فرنسا سوف تكون بالفعل هناك؛ قبل الكل وفي موقع أقوى وأفضل؛ وهو مالم يتحقق لنابليون؛ بسبب هزيمته في فلسطين؛ ثم مصر في 1801.
حقيقة فإن هذا النداء كان قد أضرم نار الشوق في اليهود؛ وبدأ نشاط زعمائهم يستعر لإحتلال فلسطين.
بعد هزيمة نابليون بحوالي أربعين سنة قام وزير خارجية بريطانيا «بالمرستن»؛ «اللورد هنري بالمرستن؛ شغل منصب وزير خارجية بريطانيا للفترة 1830- 1841؛ مات 1865.» بناءا على توصية «البارون ليون روتشيلد؛ صهيوني سياسي مصرفي انكليزي من عائلة روتشيلد المصرفية؛
مات 1937.»؛ قال فيها :» أنتم طردتم محمد علي من الشام ولكنكم تركتم وراءه فراغا لم يملأه أحد. «
بالاستفادة من يهود أوروبا بإن يقيم وطناً لهم في فلسطين؛ فيكون بذلك أرضاهم من جهة؛ وقام بالرد على «محمد علي»؛ «محمد علي باشا حاكم مصر للفترة 1805- 1848 مات 1849»؛ في عدم تكرار قيامه بإنشاء اقليم يضم مصر والشام؛ ( إذ كانت فلسطين ضمن ولايات الشام وقتذاك )؛ بعدما تحالفت الدولة العثمانية مع البريطانيين لطرده من سوريا عام 1840؛ فطلب من السفير البريطاني في إسطنبول محاولة إقناع الخليفة العثماني وحاشيتة بأن الحكومة البريطانية؛ ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود؛ حيث قوبل الطلب بالرفض من السلطان العثماني.
وبدأت المساعي اليهودية الحثيثة لتنفيذ مشروعهم الاستعماري لفلسطين برعاية بريطانية واوربية، عام 1885.ظهر لأول مرة مصطلح الحركة الصهيونية على يد الكاتب النمساوي «ناتان بيرنباوم (مات : 1937)؛ الذي لعب دوراً بارزاً في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 حيث انتُخب الأمين العام للمنظمة الصهيونية ؛ إلا انه تخلى عنها لاحقا ليتجه نحو حركة (أغودات إسرائيل) التي تمثل اليهودية الأرثوذكسية..)؛ فقد كان هدف الحركة الصهيونية الاستيطان في فلسطين؛ «وكلمة الصهيونية مشتقة من كلمة صهيون إحدى تلال القدس.. « ؛ بعد ذلك نشر الصحفي الصهيوني «ثيودور هيرتزل؛(مات : 1904) كتابه الدولة اليهودية باللغة الألمانية؛ وتشير المصادر الى ان «هرتزل قال : أن يهود أوروبا لا يزالوا متعلقين بالهجرة نحو أمريكا مما حدا بالطبيب ماكس نوردو؛ «ماكس نوردو؛ مات 1923 اصوله من دولة المجر؛ كان زعيمًا صهيونيا وطبيبًا، وكاتبًا وناقدًا اجتماعيًّا؛ والساعد الأيمن لهرتزل» ان يرسل اثنين من كبار رجال الدين اليهود إلى فلسطين؛ حملا رسالة في (1896)
من سطر واحد جاء فيه : (العروس جميلة جداً ومستوفية لجميع الشروط؛ ولكنها متزوجة فعلاً.)
رئاسة هرتزل
فهم «نوردو» أن المقصود بفلسطين ليست كما تصورها هرتزل أرضًا بلا شعب؛ وأن فيها شعباً يسكنها منذُ آلاف السنين؛ في عام 1897 شارك «نوردو؛ وبيرنباوم» تحت رئاسة هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية، والذي تبنى برنامج تأسيس وطن معترف به للشعب اليهودي في فلسطين؛ سنة 1915؛ قام «هيربرت صموئيل؛ (مات 1963) وهو أول صهيوني يهودي يصل لمنصب وزير بريطاني؛ شَغِلَ للفترة 1920 – 1925 أول مندوب سامي بريطاني في فلسطين»؛ بتقديم مذكرة سرية لمجلس الوزراء البريطاني بعنوان (مستقبل فلسطين) ؛ جاء فيها: «الوقت الحاضر ليس مناسبا لإنشاء دوله يهودية مستقله؛ لذا يجب ان توضع فلسطين بعد الحرب؛ (والمقصود الحرب العالمية الاولى 1914- 1918) تحت السيطرة البريطانية؛ لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة؛ وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي.... « تم الأخذ بتوصية صموئيل في اتفاقية» سايكس بيكو» التي جمعت بريطانيا وفرنسا لتقسيم سوريا؛ والاتفاق على بقاء فلسطين تحت سيادة مشتركة للحلفاء لإعدادها للدولة اليهودية؛ في 2 نوفمبر 1917 وافق مجلس
الوزراء البريطاني برئاسة» ديفيد لويد جورج» (مات 1945)؛ على إصدار وعد بريطاني لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ كتب الوعد على صيغة رسالة وزير الخارجية آرثر بلفور إلى «اللورد الصهيوني ليونيل ولتر روتشيلد»
حيث كان «بلفور» يكتب رسالته باسم الحكومة البريطانية؛
وحقيقة الامر فإن بريطانيا كانت تهدف من استعمار اليهود لفلسطين الى عدة أهداف أستراتيجية؛ من اهمها هو تحقيق الفصل بين مصر وسوريا؛ وزرع وطن قومي لليهود يكون فاصلا بينهما عند نقطة الاتصال بين ضلعي الزاوية الجيوسياسية في جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط؛ اضافة الى مطالب تأمين خطوط مواصلات الامبراطورية البريطانية مع الهند؛ وكذلك فرض السيطرة على طرق التجارة البحرية؛ وأيضا فرض السيطرة على البحر الاحمر والبحر الابيض المتوسط؛ وكذلك هدف بريطانيا في تأكيد مركزها المالي والتجاري العالمي
ولم يكن وعد بلفور يتضمن السماح لليهود في أوروبا بالهجرة والاستيطان في أرض ليست أرضهم وحسب؛ بل تضمن أيضا اقتلاع أصحاب الأرض من أرضهم؛ والزج بهم في أتون المنافي والشتات؛ لقد كان إذن وعدا مزدوجا يتضمن الإحلال والاقتلاع في ذات الوقت؛ ولذلك لم يكن المشروع الصهيو-بريطاني مثل غيره من المشاريع الاستعمارية؛ بل كان فريدا من حيث الفكرة والتكوين.
وأن حجم الصراع بين مَن أحتَلَ ومَن أُحتُلَ لن يتوقف عند قطعة من الأرض؛ وإنما سيمتد حتى يشمل الذاكرة والتاريخ؛ والدين والثقافة وحتى أسماء المدن والشوارع والقرى والمزارع والبساتين.
لقد مر أكثر من قرن على وعد بلفور؛ ورغم كل المعاناة؛ يبقى الشعب الفلسطيني شامخاً وصامداً؛ ومتمسكاً بحقوقه المشروعة.
استعادة حقوق
وإذ نراجع تاريخ هذا الوعد؛ فإنه لم يُنهِ إرادة الفلسطينيين أو يقضي على أحلامهم في الاستقلال واستعادة حقوقهم؛ وتبقى قضيتهم حية؛ وتظل مقاومتهم ونضالهم مصدر إلهام لشعوب العالم؛ وكفاحهم العادل هو عنوان لحقبة من التاريخ الحديث؛ حيث يتوق الإنسان للحرية والعدالة والمساواة؛ وفي قراءتنا لتاريخ تلك الاحداث؛ لا يتسع المقام لذكر حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه المسلوبة وأرضه المحتلة بهذه العجالة؛ ولا يمكن أيضا ذكر حجم الخذلان الذي مُنّي به سواء من القريب قبل الغريب البعيد؛ فمنذ وعد بلفور تفجرت في فلسطين الثورات تلو الثورات؛ واشتعلت المعارك تلو المعارك؛ من ثورة يافا 1919؛ إلى ثورة موسم النبي موسى 1920؛ إلى ثورة البراق 1921؛ إلى الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939؛ إلى حرب عام 1948؛ وحرب عام 1967؛ وحرب 1973؛ إلى الانتفاضة الأولى 1987؛ وانتفاضة الأقصى 2000؛ وحرب 2006
إلى المعارك المتكررة على غزة؛ والتي كان آخرها غارة طوفان الاقصى في 2023 المجيدة؛ حيث لا يزال مسلسل الصمود الفلسطيني مستمرا وما زال حجم التضحيات يتراكم ليشكل ملحمة فلسطينية عزَّ نظيرها في التاريخ الحديث. ختاما فإن بريطانيا تتحمل مسؤولية إنسانية وقانونية كبيرة تجاه الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي نتيجة «وعد بلفور» لعام 1917؛ والذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بدعم إقامة «وطن قومي للصهاينة» في فلسطين؛ وإن وعد بلفور ساهم في نشوب نزاع طويل الأمد؛ ومن واجب بريطانيا دعم احترام القوانين الدولية التي تضمن حماية المدنيين أثناء النزاعات وتعزز حقوق الإنسان؛ ورغم الصعوبات التي تعتري الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي المنصف؛ مطالبة بريطانيا الاعتراف بالأضرار التي نتجت عن وعد بلفور وتقديم الاعتذار الرسمي ودعم تعويضات للفلسطينيين؛ سواء كانوا داخل فلسطين أو في الشتات؛ لأنها وهبت ما لا تملكه لمن لا يستحقه؛ فلا بد من مواصلة النضال والعمل الدؤوب للحصول على تلك الحقوق المشروعة؛ لأن الحقوق لا تسقط بالتقادم؛ ولن يضيع حق وراءه مطالب؛ ورحم الله الشاعر أحمد شوقي؛ إذ قال:
وما استعصى على قومٍ منال...
إذا الاقدام كان لهم ركابا.
وما نيل المطالب بالتمني..
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
والله المستعان.