قصيدة الرصافي.. بين تونس وبغداد تزهر من جديد
غزاي درع الطائي
استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد في قصر قرطاج يوم الأربعاء الماضي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في زيارة رسمية له لتونس، وأهداه في هذا اللقاء لوحة مكتوبة فيها قصيدة لشاعرنا الكبير معروف عبد الغني الرصافي (1875 ــ 1945) م، تجسّد العلاقة بين العراق وتونس، ولم يكتف الرئيس التونسي بإهداء هذه اللوحة بل قرأ ستة أبيات من أبيات القصيدة، وتلك الأبيات هي:
أتونسُ إنَّ في بغدادَ قوماً
ترفُّ قلوبُهُمْ لكِ بالودادِ
ويجمعُهُمْ وإيّاكِ انتسابٌ
إلى مَنْ خُصَّ منطقُهُمْ بضادِ
ودِينٌ أوضحَتْ للنّاسِ قبلاً
نَواصِعُ آيِهِ سُبُلَ الرَّشادِ
فنحنُ على الحقيقةِ أهلُ قربى
وإنْ قضتِ السِّياسةُ بالبعادِ
وما ضرَّ البعادُ إذا تدانتْ
أواصرُ مِنْ لسانٍ واعتقادِ
وإنَّ المسلمينَ على التآخي
وإنْ أغرى الأجانبُ بالتَّعادي
وهنا نتوقف لنقول: تعود قصيدة الرصافي (بين تونس وبغداد) بعد (99) عاما على كتابتها، إلى الواجهة بقوة، لتزهر من جديد، ولتكون دليلا لا غبار عليه على عمق الصلات بين العراق وتونس وحميميتها وشدة ترابطها، وقد أنشد الرصافي قصيدته هذه في حفل التأهيل والترحيب بالزعيم التونسي الكبير عبد العزيز الثعالبي، الذي أقيم عام 1925م، وهو العام الذي حل فيه الثعالبي ضيفا على بغداد، وتشير المعلومات المنشورة عن العلاقة بين الرصافي والثعالبي إلى أن الرصافي كان صديقا حميما للثعالبي، وقد تعارفا في إسطنبول أولا على أيام العثمانيين، قبل تجديد الصلة في بغداد، والقصيدة تتألف من (26) بيتا، وهي من البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن)، وقافيتها قائمة على حرف الروي (الدّال) الذي يحمل حركة الكسرة، وهي مردفة بالألف، وحرف الوصل فيها الناتج عن إشباع حركة الروي هو الياء، والقصيدة من حيث المضمون ضمَّت جانبين، الأول: وشائج الحب الذي يربط ما بين بغداد وتونس، المرتكز على أساسين قويَّين هما النَّسب والدين، أو اللسان والاعتقاد، الذي تمثله الأبيات الستة السابقة، فضلا عن البيت الآتي:
أتونِسُ إنَّ مجدَكِ ذو انتماءٍ
إلى عُليا نِزارٍ أو إيادِ
أما الجانب الثاني، فيخص شخصية الزعيم التونسي السياسي والديني الكبير عبد العزيز الثعالبي (1876 ـــ 1944)، وهو أحد زعماء النهضة التونسية، وكان يعدُّ قطبا ومناضلا بارزا ضد الاحتلال الفرنسي، ويوصف بأنه داعية الإصلاح والتجديد والمقاومة، للتخلص من الاحتلال الفرنسي وظلمه، وللنهوض بالمجتمع والرقي به في الوقت ذاته، ما جعله عرضة للنفي والترحال في سبيل دعوته ومبادئه، ونقتطف من قصيدة الرصافي (بين تونس وبغداد) هذه الأبيات في مدح الثعالبي والإشادة بنضاله:
لنا بثعالبيِّك خيرُ مُلْقٍ
على أشتِاتنا حبلَ اتِّحادِ
وأكبرُ حاملٍ بيدِ اعتزامٍ
لحبِّ بلادِهِ عَلمَ التَّفادي
وأسمى مَنْ سما أدبًا وعِلمًا
وأفصحُ مَنْ تكلَّمَ عن سدادِ
دعِ القولَ الْمُرِيبَ وقائليهِ
وسلْ عنه المنابرَ والنَّوادي
تجدْهُ خطيبَها في كلِّ خَطبٍ
ومِدْرَهها لدى كلِّ احتشادِ
فتًى صَرُحَتْ عزائمُهُ وجلَّتْ
عن الرَّوَغانِ في طَلبِ المُرادِ
تغرَّبَ ضاربًا في الأرضِ يبغي
مَدًى مِنْ دونِهِ خَرْطُ القتادِ
فأوغلَ في الْمَفاوز والْمَوامِي
وطوَّفَ في الحواضرِ والبوادي
وكان طوافُهُ شرقًا وغربًا
لغيرِ تكسُّبٍ وسوَى ارتفادِ
ولكنْ ساحَ لاستنهاضِ قومٍ
حَكَوا بجمودِهِمْ صفةَ الجمادِ
يغارُ على العُروبةِ أنْ يراها
مهدَّدةَ المصَالحِ بالفسادِ
فيا عبدَ العزيزِ أقمْ عزيزًا
بحيث الأرضُ طيِّبةُ الْمَرادِ
يحيِّيكَ العراقُ برافِدَيهِ
تحيَّةَ مخلصٍ لكَ في الوِدادِ
وتشير المقالات التي كُتبت عن الثعالبي أنه كان خطيباً مفوّهاً، ومحاضراً مجيداً، وكاتباً صحفياً بارعاً، وعالماً ومؤلفاً قديراً، وكان يؤمن بفكرة إحياء الأمّة العربية بروح الإسلام، مع الاعتماد على التوفيق بين الحداثة والإسلام وتطوير جوانب الإصلاح فيه، وقد ألف كتاب (روح القرآن) ثم ترجمه إلى اللغة الفرنسية، ودعا فيه إلى الإصلاح والبعد عن الجمود، وترأس (الحزب الحرّ الدستوري التونسي) الذي أعلن عن تأسيسه عام 1920م، وانتهى به المطاف إلى بغداد التي وصلها يوم 14 تموز 1925، فاستقبلته جميع الأوساط العلمية والثقافية والسياسة بالتبجيل والاحترام، وأمر الملك فيصل الذي كان قد تعرّف إليه عند إقامته في باريس وإسطنبول، بتعيينه مدرّسا للفلسفة الإسلامية بجامعة آل البيت، وقد باشر مهمة التدريس من مطلع سنة 1926م إلى أن ألغيت تلك الجامعة في سنة 1930م، وهنا نجد مصدرا يفيد الأول بتعيين الثعالبي بعد إغلاق الجامعة مفتشا في وزارة المعارف، فيما يفيد مصدر ثان إلى أن الملك عيَّنه مراقبا لبعثة الطلبة العراقيين بمصر، وغادر بغداد في آخر شهر أيلول 1930م ملتحقا بمنصبه الجديد بالقاهرة، وعاد إلى تونس عام 1937م وظل فيها حتى وفاته، وله كتب مطبوعة كثيرة، من أهما: معجزات محمّد رسول الله، مسألة المنبوذين في الهند، روح التحرر في القرآن، تونس الشهيدة، محاضرات في تاريخ المذاهب والأديان، مقالات في التاريخ القديم، خلفيات المؤتمر الاسلامي بالقدس، فلسفة التشريع الإسلامي، تاريخ التشريع الإسلامي، ومذكراته (في خمسة أجزاء)، وخلال فترة تواجده في بغداد، كانت له ندوة يقيمها في داره في محلةمن محلات بغداد القديمة، وكانت تلك الندوة قبلة للعديد من الشعراء والأدباء والساسة العراقيين في ذلك الوقت، منهم العلامة محمد بهجت الأثري والأستاذ فهمي المدرس والشاعران الكبيران معروف عبد الغني الرصافي وجميل صدقي الزهاوي والزعيم السياسي ياسين الهاشمي، وغيرهم، حتى قيل إن مجلس الشيخ الثعالبي كان ثاني أهم مجالس بغداد بعد مجلس العلامة محمود شكري الألوسي.
رحم الله شاعرنا الكبير معروف عبد الغني الرصافي، ورحم الزعيم التونسي الكبير عبد العزيز الثعالبي، وجعل مثواهما الجنة.
وفي الختام، نقول: كان الشِّعر وما زال همزة وصل وجسرا رابطا بين الناس والثقافات والمتحاورين والقراء والشعراء، ويظل حاجة إنسانية متجدِّدة، وسيظل متمسِّكا بمشعله، يحمله من زمان إلى زمـان، عبر الأزمات والآلام والأحلام والآمال، متفائلا، موقنا أن ما سيأتي هو الأفضل والأحلى والأبهـى، وأن الحياة لن تتراجع، وأن الأخيار مصرّون على حفظ أمن البشرية وسلامتهــا باتجاه الآفاق الرحبـة المفعمة بالمودة والتعاون والتآخي والسلام والخير والتواصل والاتصال، من أجل مصلحة الجميع.