الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عندما يضلل القادة شعوبهم

بواسطة azzaman

أذن وعين

عندما يضلل القادة شعوبهم

عبد اللطيف السعدون

يسألني بعض من أعرف عن «الشعبوية» بعدما دخلت الكلمة القاموس السياسي في العقد الأخير، وهل عرفها عالمنا العربي ؟ 

يتجاهل السائلون أننا، نحن العرب، كنا أكثر من عرف «الشعبوية»، واكتوى بنيرانها، وعاش عليها ومعها عقودا طويلة، وقد هتفنا لمن جاء بها بالروح وبالدم، لكننا، والحق يقال، كنا نعتبر أنفسنا محظوظين بوجود قادة شعوبيين عندنا، يخاطبوننا مباشرة كأنهم من أهل بيتنا، وينوبون عنا في تقرير مصائرنا، وصياغة مستقبل أولادنا، ويمنحوننا مكرماتهم كلما ادلهمت الخطوب بنا، وعندما غابوا عنا دخلنا في الفوضى الكبيرة، وقد فقدنا في غيابهم الساعد الذي نتكئ عليه، والمشجب الذي نعلق عليه أخطاءنا وخطايانا

قراءة جديدة

مثل هذا السؤال واجه عديدا من كتاب في بلدان وقارات أخرى، واحد منهم هو كارلوس دورادو، الأرجنتيني الذي قيل أن قارته الأميركية اللاتينية عرفت «الشعبوية» وتغذت عليها قبلنا، منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ولكنه لا يقر بهذا ولذلك نشر دراسة قدم فيها قراءة جديدة، تؤصل التيارات الشعبوية الى ما قبل ولادة السيد المسيح بأربعة قرون، وفيها يقول ان «الآباء» الذين منحوا الولادة للنظام الديمقراطي هم أنفسهم من شرعن «الشعبوية» وأعطوها شهادة الحياة، وهو أيضا لا يضع فاصلا بين «الشعبوية» وبين «الديماغوجية» فكل منهما تكمل الأخرى، يشرح دورادو كيف سيطرت إمبراطورية أثينا على خطوط البحر، وكيف هيمنت من خلال ذلك على العالم كله، وأمدت شرايين حياتها بأموال فائضة من موارد التجارة العالية القيمة، وحققت ازدهارا اقتصاديا ساعد على خلق مهنة جديدة هي مهنة «السياسة»، وفئة جديدة تعمل في هذا الميدان قوامها مواطنون تطوعوا لإدارة الخدمات العامة، والتخطيط لمستقبل عامة الناس عبر اعداد القوانين والتشريعات المتعلقة بذلك، لكنهم يتقاضون من مواطنيهم مكافآت مالية كافية لتدبير حاجيات أسرهم، ولإبقائهم بعيدين عن البحث عن موارد للعيش قد تكون غير شرعية، وقد تلقي بهم في مهاوي الفساد.

تلك كانت بداية نشوء ما يمكن أن نطلق عليه «طبقة سياسية» شبه متفرغة، وممثلة لرغبات مواطنيها بقدر ما، تلك أيضا كانت، بحسب دورادو، بداية نقل السلطة من الحاكم الدكتاتور والمستبد الى الشعب، وهو ما عرف فيما بعد بالديمقراطية، ثمة إشكالية برزت هنا اذ عندما شعر عامة الناس ان ممارسة السياسة يستتبعها نفع مالي أكثر وجهد أقل أخذوا يسعون للانخراط فيها كطريقة للعيش والحياة، وشرعوا يهجرون مهنهم بعد أن كانوا يكدحون في حقول الزراعة والتجارة والخدمات العامة، وفي النهاية حصل التوافق: النخبة تتولى سلطة القرار والتشريع، وعامة الناس تفوض النخبة أمرها على أن تتولى هي اختيار الناس الذين تراهم لقيادتها، وحيث أن عامة الناس الذين يتولون عملية الاختيار لا تبدو، كما يقول دورادو، مؤهلة للتقييم، ولا تملك امكانية التحليل المنطقي لاختيار الأفضل والأنسب لسلطة القرار، وكثيرا ما تكون اختياراتها ساذجة، وذات نزعة عاطفية، أدى ذلك كله لنشوء ما نسميه اليوم «الشعبوية»، وولادة «قادة» لهم شخصية كارزمية، بارعين في الخطابة، ماهرين في اجتذاب الدهماء، قادرين على صياغة ما يريدونه لأنفسهم تحت لافتة «حماية الوطن وخدمة المواطن»، مستخدمين شتى أساليب الاقناع والترويج، ومنها إطراء الناس المتلقين، والاشادة بمآثرهم، والتغني بأمجادهم السالفة، والايحاء لهم بأن الشعب وحده صاحب السلطة والقرار، فيما هم منفذون لإرادته فقط! يقول دورادو ان القادة الشعبويين ينجحون عادة في كسب مواطنيهم لدرجة أن حملات التضليل تصرف المواطنين العاديين عن مراقبة ما يفعله أولئك القادة، وحتى قد يساهم المواطنون أنفسهم في إيجاد المبررات لأخطاء القادة وخطاياهم، من دون وعي، وجراء السحر الذي يمارس عليهم، والذي سرعان ما يفرض عليهم الطاعة والانصياع والولاء التام.

حوار فني

عبر هذا السياق تأسست «الشعبوية» على غرس صورة كارزمية، وقدرة على الحوار الغني بالوعود، والبراعة في الخطابة، والتلاعب بالألفاظ والكلمات، وتحول روادها الى خبراء في مهنة «السياسة»، وهم، على وجه التحديد الآباء الأول للشعبوية والديماغوجية معا، وما هو لافت للنظر أن مئات السنين مرت على ولادتها لكنها بقيت حية ومؤثرة كما أطلقت في يومها الأول، واللافت أكثر أن الناس العاديين يكتشفونها، وينبذونها لكنهم سرعان ما يعودون اليها، ويرضون بالعيش في ظلها، ذلك لان الانسان لا يتعلم من أخطائه، وهو «الحيوان الوحيد الذي يتعثر بالصخرة ذاتها مرتين، وربما مرات»، يقول دورادو.

 

 


مشاهدات 163
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/08/03 - 1:32 AM
آخر تحديث 2024/08/07 - 8:18 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 130 الشهر 2560 الكلي 9978104
الوقت الآن
الأربعاء 2024/8/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير