الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
فلتشربوا من كأس المرارة ذاته وإلاّ 

بواسطة azzaman

فلتشربوا من كأس المرارة ذاته وإلاّ 

لطفية الدليمي

 

لا أظنُّ أنّ العراق كان دولة حقيقية منذ تأسيسه الرسمي عام 1921. كان شبه دولة في أحسن الاحوال. هو كان دولة بالمعايير الرسمية، ثمّ تهاوت معالم الدولة لينحلّ إلى شكل (اللادولة) في أيامنا هذه. لستُ أعني المعايير الرسمية بقدر ما أعني قدرتنا على تأسيس تقاليد عمل ومواطنة حقيقية محكومة بدستور حقيقي، لا تتغيّر سريعاً كلّما تغيّر شكل النظام السياسي الحاكم. الدولة الحقيقية وتقاليدها الراسخة أبقى من الحكومات والاحزاب المؤسسة لها. هذا القانون لا يعمل في العراق؛ ولأنّه لا يعمل فقد صارت حياتنا العراقية متوالية من المصائب الكبرى.

   العسكر والاحزاب لا تلغيهما الدولة الحديثة؛لكنّهما يعملان تحت جناحها ولخدمتها. العسكر في الدولة الحقيقية محسومةٌ أدواره الوظيفية؛ إذ لم يعد من المتصوّر أن يسكر أحد الجنرالات البريطانيين أو الامريكان في ليلة سبت صاخبة ثم ينطلق لإذاعة (البيان رقم واحد) من ال BBC أو صوت أمريكا. هذه خيالات مريضة لا يمكن أن تحصل إلا في سياق روائي يحكي عن أمريكا أو بريطانيا وقد صارتا جمهوريتين من جمهوريات الموز!!. كذلك الاحزاب في الدولة الحقيقية ليست سوى آلية سياسية لبلوغ الحكم عبر الانتخابات.

   العسكر في العراق (الجنرالات الكبار بالاصح) لعبوا  أدواراً  أكبر من حجومهم الموصوفة بقانون العسكر، وكذا الاحزاب لدينا لم تكن آلية سياسية بل وسيلة للإستئثار بالحكم في إطار لعبة صفرية إلغائية للآخرين. من البداهة القولُ أنّ اللعبة الحزبية الصفرية جلبت البلاء على رؤوس العراقيين بأشكال وألوان عدّة. أحد أشكال هذه الابتلاءات هو قسر العراقيين على لون حزبي عبر توظيف إمكانات الدولة المالية والقانونية (التوظيف العام) في فرض اللون الحزبي، ومن يؤثِرُ البقاء بعيداً فلن تناله الترقيات الوظيفية الطبيعية. صارت العناوين الحزبية بديلاً عن الارتقاء العلمي والثقافي الفردي، وفي حياة محكومة بهذه الاشتراطات الحزبية ممثلة بقانون (من ليس معنا فهو علينا) سيئ الصيت آثر كثيرون الحياة المستورة المتواضعة وظيفياً ومالياً برغم إمكاناتهم وقدراتهم الشخصية الطموحة عالية المعايير بالمقارنة مع الممسكين بدفة السلطة  على شتى مستوياتها.

عذابات رهيبة

من جانب آخر أفضى القانون الصفري في الحياة الحزبية العراقية لتعرّض كثيرين إلى عذابات رهيبة تفاوتت في شدتها من تحقير الكرامة الشخصية حتى الاعدام؛ فكان من مفاعيل هذا السلوك الشائن تطوّرُ خصيصة (طهرانية) عند بعض من كانوا ضحايا تلك السياسات الالغائية. الطهرانية الحزبية -كما كتبتُ مرة- نزعة لا تتسق مع الحياة الطيبة المتوازنة؛ لأنها تمنح أصحابها رؤية موهومة بأنّ من لم يشربوا من كأس المرارة التي شربوها هم أناسٌ مطعونٌ في إخلاصهم ونزاهتهم.    سأترك الجانب التنظيري- التاريخي العام وأحكي -على كراهة لا أستحبها- بعضاً ممّا خبرته في هذا الشأن. أنا ماركسية الهوى منذ يفاعتي الاولى، وأولى الاختبارات القاسية التي شهدتها لهذه الماركسية هي إعتقال زوجي الراحل (كامل العزاوي) - الذي شاركني ماركسيتي - عقب إنقلاب 8 شباط 1963. تشارك زوجي التعذيب مع ثلّة من الاسماء الثقافية المعروفة (الراحل علي الشوك كان أحدهم)، وكان من سياقات التعذيب القاسية حينذاك إخبارُ المعتقلين كل صباح أنّ عليهم التهيؤ لتنفيذ حكم الاعدام بهم، ثم كانوا يقادون إلى ساحة كبيرة، وتغطى عيونهم، ثم يحصل إطلاق رصاص قريباً منهم في عملية (إيهام بالموت) خسيسة لا يعرف مفاعيلها الرهيبة سوى من عاشها، وبعد هذه الحفلة الحقيرة كانوا يُعادون إلى زنازينهم البائسة. أطلِقَ سراح زوجي وهو مثقل بأمراض الضغط والسكري وعجز القلب، وراحت صحته تتردى حتى توفي عام 1994 عقب عشر سنوات عاشها عليلا كنت أترحّل به بمساعدة إبنتي بين مستشفى ابن النفيس وعيادات الاطباء. هذا العذاب الذي عانيته وعانى مثله كثرةٌ  من العراقيين هو نتاجُ الحياة الحزبية السقيمة في العراق.     على الصعيد الوظيفي أمضيت معظم حياتي في سلك التدريس، ثم في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي إنتقلتُ للعمل في القطاع الثقافي محررة للقصة في مجلة ( الطليعة الادبية ) ثم في مجلة ( الثقافة الاجنبية). تركت معاناة زوجي الراحل أثرها في نفسي فقرّرتُ الابتعاد عن كلّ نشاط خارج الكتابة الابداعية مع الحفاظ على روح الماركسية الفكرية النقية والاخلاقيات الانسانية غير المصطبغة بأي لون حزبي.

اذى خطير

   أكتب هذا الكلام لكي أؤكّد بضع قناعات أراها حقائق يتفق عليها المنزّهون عن الاغراض الخاصة. إذا كان البعض منّا قد ناله أذى خطير بسبب (نضاله) الحزبي فهذا ممّا يستحق الادانة بأعلى الاصوات؛ لكنّ هذا الاذى النفسي والجسدي لا يمنحه حقاً حصرياً مطلقاً في تنزيه الآخرين أو إدانتهم طبقاً لمعيار من الطهرانية الموهومة وضعه لنفسه وجعل منه ميزاناً أو (صكوك غفران) يوزعها أنى شاء.

   لو حصل وشربتَ من كأس المرارة فليس من المروءة أن تطلب من الآخرين شربها لكي يناظروك في طهرانيتك الحزبية. الطهرانية ليست سمة حزبية حسب، ثمة في الحياة أشكال من الطهرانية يمكنها أن تكون أكثر رقياً من طهرانيتك الموهومة، وأن تقدّم للبشرية خدمات ربما  أبقى وأعمق أثرا من الخدمة التي قدّمتها  بنضالك وتريد من الآخرين أن يدفعوا أثمانها عبر الانتقاص من شرفهم الوطني ونزاهتهم المهنية.

   بئساً لحياة نعيشها في القسوة والاساءة للآخرين بدلاً من تصريفها في العمل المنتج. القسوة ماركة مسجلة في العراق مثلما المارسيدس ماركة الجودة الصناعية الالمانية. لست في حاجة لإيراد أمثلة؛ فهي أكثر من أن تكون نماذج قليلة بين كم كبير.

   من يعش على إعادة تدوير رؤاه وقناعاته  سيكون أقرب لصورة (الكاتوبليباس)- ذلك الحيوان الاسطوري الذي حكى عنه بورخس في (مملكة الحيوان المتخيلة). هذا الحيوان يلتهم جسده بادئاً من قدميه.

   إنه خيارٌ أفضل من سواه في كل الاحوال أن ننصرف للعمل المنتج المفضي لثمار طيبة مشهودة على الارض؛ أما من يريد أن يكون (كاتوبليباس) معاصراً فهذا شأنه؛ لكن من حقّنا ان نقول له: لا تطلب من الآخرين أن يكونوا (كاتوبليباسات) إضافية في هذا العالم.

 عن صفحتها على فيسبوك

 


مشاهدات 235
الكاتب لطفية الدليمي
أضيف 2024/07/13 - 12:41 AM
آخر تحديث 2024/08/14 - 9:45 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 54 الشهر 6085 الكلي 9981629
الوقت الآن
الخميس 2024/8/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير