الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأرض‭ ‬اليباب

بواسطة azzaman

الأرض‭ ‬اليباب

محمد زكي ابراهيم

 

‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬جيلنا‭ ‬لم‭ ‬يتربّ‭ ‬على‭ ‬كراهة‭ ‬الإقطاع،‭ ‬وازدراء‭ ‬رموزه،‭ ‬ولم‭ ‬يعتد‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬الفقر‭ ‬إليه،‭ ‬وإلقاء‭ ‬تبعة‭ ‬التخلف‭ ‬عليه‭.‬

‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية،‭ ‬الناجحة‭ ‬منها‭ ‬والفاشلة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي‭. ‬أو‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بحوزة‭ ‬الملاكين‭ ‬الكبار،‭ ‬وتوزيعه‭ ‬على‭ ‬العاملين‭ ‬فيها‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬أعلم‭ ‬بالضبط‭ ‬هل‭ ‬حصل‭ ‬الفلاحون‭ ‬العراقيون‭ ‬على‭ ‬حصة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأراضي،‭ ‬بعد‭  ‬14‭ ‬تموز‭ ‬1958،‭ ‬بعد‭ ‬مصادرتها‭ ‬من‭ ‬الشيوخ،‭ ‬أو‭ ‬تركت‭ ‬دون‭ ‬راع،‭  ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬الآن،‭ ‬بعد‭ ‬سبعة‭ ‬عقود‭ ‬تقريباً،‭ ‬ثمينة‭ ‬جداً،‭ ‬لكن‭ ‬لأغراض‭ ‬غير‭ ‬زراعية‭.‬

‭ ‬وأنا‭ ‬لست‭ ‬بصدد‭ ‬تقييم‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬اضطلع‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬شجع‭ ‬عليها،‭ ‬اليسار‭ ‬العراقي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬قوته،‭ ‬وذروة‭ ‬جموحه،‭ ‬لكنني،‭ ‬ولغرض‭ ‬ما،‭ ‬قرأت‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬غنية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬آخر،‭ ‬وأعني‭ ‬بها‭ ‬إقطاعات‭ ‬جنوب‭ ‬لبنان‭ ‬الزراعية،‭ ‬وما‭ ‬حل‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الحكومات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتدخل‭ ‬لإلغائه،‭ ‬والتنكيل‭ ‬بأمرائه،‭ ‬وسلبهم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يملكونه‭ ‬من‭ ‬ثروات،‭ ‬ثم‭ ‬تكتشف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬خطأ،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬حكومات‭ ‬أجنبية،‭ ‬أو‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬البلاد‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يقضى‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬نفوذ‭ ‬شيخ‭ ‬المشايخ،‭ ‬أو‭ ‬زعيم‭ ‬الإقطاع،‭ ‬تتحول‭ ‬المنطقة‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬محتل،‭ ‬وتسند‭ ‬المراكز‭ ‬الإدارية‭ ‬فيها‭ ‬لمتسلمين‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬وتفرض‭ ‬على‭ ‬الأهالي‭ ‬ضرائب‭ ‬باهظة،‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الإيفاء‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬وارداتهم‭ ‬القليلة‭. ‬فيضطرون‭ ‬للهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬وحينما‭ ‬تفرغ‭ ‬القرى‭ ‬من‭ ‬ساكنيها‭ ‬تصاب‭ ‬البلاد‭ ‬بالمحل،‭ ‬ويعم‭ ‬في‭ ‬أرجائها‭ ‬الخراب،‭ ‬وتشح‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬ترسل‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬الولاية‭ ‬أو‭ ‬عاصمة‭ ‬الدولة،‭ ‬ويدرك‭ ‬الولاة‭ ‬ما‭ ‬وقعوا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬خطأ،‭ ‬وما‭ ‬ارتكبوه‭ ‬من‭ ‬ظلم،‭ ‬ويشرعون‭ ‬بإعادة‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬حدث‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العثماني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسدل‭ ‬الستار‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬الإقطاع‭ (‬نهائياً‭) ‬عام‭ ‬1866،‭  ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬خضعت‭ ‬البلاد‭ ‬لإدارة‭ ‬حكومية‭ ‬مباشرة‭ .. ‬من‭ ‬الأستانة‭! ‬وكان‭ ‬المتسلمون،‭ ‬وقادة‭ ‬الجيش،‭  ‬ومتعهدو‭ ‬الضرائب‭ ..  ‬يرسلون‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬البعيدة‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬للمواطنة‭ ‬أو‭ ‬الانتماء‭ ‬الجغرافي،‭ ‬ثم‭  ‬يتحول‭ ‬النفوذ‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لصالح‭ ‬أشخاص‭ ‬وجماعات‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬بالحاكم،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬اليسارية‭ ‬بالبرجوازية‭ ‬الوطنية‭.‬

‭ ‬يوم‭ ‬فقد‭ ‬جبل‭ ‬عامل‭ ‬حكم‭ ‬الإقطاع‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬قاحلة‭ ‬يحكمها‭ ‬الغرباء،‭ ‬ولا‭ ‬يطول‭ ‬أهلها‭ ‬سوى‭ ‬الذل‭ ‬والهوان‭ ‬والتشريد،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الحكم‭ ‬الإقطاعي‭ ‬كان‭ ‬يمثل‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬الحكم‭ ‬الوطني،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬حكم‭ ‬الدولة‭ ‬يمثل‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأجنبية،‭ ‬والخراب،‭ ‬والفقر،‭ ‬والهجرة‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الله‭ ‬الأخرى‭.‬

‭ ‬ولست‭ ‬أشك‭ ‬أن‭ ‬الإقطاع‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬السطوة‭ ‬على‭ ‬الفلاحين،‭ ‬واتسمت‭ ‬علاقاته‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بالغلظة‭. ‬لكن‭ ‬الصلات‭ ‬الإنسانية‭ ‬لم‭ ‬تغب‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬لحظة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬عشائري‭ ‬شرقي‭ ‬إسلامي،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التكافل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تفرضه‭ ‬هذه‭ ‬الوشائج‭ ‬الإنسانية‭ ‬الرفيعة‭.‬

‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الحكومات‭ ‬جميعاً،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ (‬الشرعية‭) ‬السياسية،‭ ‬لم‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭ ‬الضعفاء‭ ‬بطريقة‭ ‬أفضل،‭ ‬ولم‭ ‬تغير‭ ‬من‭ ‬واقعهم‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬دمرت‭ ‬اقتصاد‭ ‬البلاد،‭ ‬وجعلت‭ ‬الناس‭ ‬يرزحون‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الفقر‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وهي‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورنت‭ ‬بحكم‭ ‬الإقطاع،‭ ‬فإنها‭ ‬كانت‭ ‬كارثة‭ ‬كبرى‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس‭ ‬والاعتبارات‭.‬

‭ ‬وبالطبع‭ ‬فإن‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تختلف‭ ‬عنها‭ ‬كثيراً،‭ ‬فأرض‭ ‬السواد‭ ‬تحولت‭ ‬بعد‭ (‬الإصلاح‭ ‬الزراعي‭) ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬يباب،‭ ‬لا‭ ‬زرع‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬ضرع،‭ ‬حتى‭ ‬هاجر‭ ‬أهلها‭ ‬طوعاً‭ ‬أو‭ ‬كرهاً‭ ‬نحو‭ ‬العاصمة‭ ‬الشمالية‭ ‬بغداد‭ .. ‬أو‭ ‬الجنوبية‭ ‬البصرة‭!‬

‭ ‬ليس‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬إثارة‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬التحسر‭ ‬على‭ ‬ماض‭ ‬مندثر،‭ ‬أو‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬طلل‭ ‬دارس،‭ ‬بل‭ ‬لإعادة‭ ‬دراسته‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ (‬وطنية‭) ‬بدون‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬نظريات‭ ‬ابتدعها‭ ‬العقل‭ ‬الغربي،‭ ‬وافتتن‭ ‬بها‭ ‬أصحابنا‭ ‬أيما‭ ‬افتتان‭.‬

‭ ‬لكل‭ ‬مرحلة‭ ‬زمنية‭ ‬ما‭ ‬يناسبها‭ ‬من‭ ‬الحكم‭, ‬لكن‭ ‬العدالة‭ ‬تبقى‭ ‬هي‭ ‬حلم‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬لأنها‭ ‬تقترن‭ ‬دائماً‭ ‬بالعيش‭ ‬الكريم‭. ‬


مشاهدات 69
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/07/13 - 12:05 AM
آخر تحديث 2024/07/16 - 9:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 188 الشهر 6961 الكلي 9369033
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/7/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير