ليس ثمة أحد من جيلنا لم يتربّ على كراهة الإقطاع، وازدراء رموزه، ولم يعتد على نسبة الفقر إليه، وإلقاء تبعة التخلف عليه.
وربما كان من أول الأهداف التي رسمتها الانقلابات العسكرية، الناجحة منها والفاشلة على حد سواء، الإصلاح الزراعي. أو الاستيلاء على الجزء الأكبر من الأراضي التي كانت بحوزة الملاكين الكبار، وتوزيعه على العاملين فيها.
ولا أعلم بالضبط هل حصل الفلاحون العراقيون على حصة كاملة من هذه الأراضي، بعد 14 تموز 1958، بعد مصادرتها من الشيوخ، أو تركت دون راع، ولا بد أنها باتت الآن، بعد سبعة عقود تقريباً، ثمينة جداً، لكن لأغراض غير زراعية.
وأنا لست بصدد تقييم التجربة التي اضطلع بها، أو شجع عليها، اليسار العراقي وهو في أوج قوته، وذروة جموحه، لكنني، ولغرض ما، قرأت الكثير عن تجربة غنية في بلد عربي آخر، وأعني بها إقطاعات جنوب لبنان الزراعية، وما حل بها على يد الحكومات التي كانت تتدخل لإلغائه، والتنكيل بأمرائه، وسلبهم كل ما يملكونه من ثروات، ثم تكتشف أنها كانت على خطأ، وهي في العادة حكومات أجنبية، أو غريبة عن البلاد.
وفي كل مرة يقضى فيها على نفوذ شيخ المشايخ، أو زعيم الإقطاع، تتحول المنطقة إلى بلد محتل، وتسند المراكز الإدارية فيها لمتسلمين من الخارج، وتفرض على الأهالي ضرائب باهظة، لا يستطيعون الإيفاء بها من وارداتهم القليلة. فيضطرون للهجرة إلى أماكن أخرى.
وحينما تفرغ القرى من ساكنيها تصاب البلاد بالمحل، ويعم في أرجائها الخراب، وتشح المبالغ التي ترسل إلى مقر الولاية أو عاصمة الدولة، ويدرك الولاة ما وقعوا فيه من خطأ، وما ارتكبوه من ظلم، ويشرعون بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
وقد حدث مثل هذا الأمر ثلاث مرات في العهد العثماني قبل أن يسدل الستار على حكم الإقطاع (نهائياً) عام 1866، وبعد ذلك خضعت البلاد لإدارة حكومية مباشرة .. من الأستانة! وكان المتسلمون، وقادة الجيش، ومتعهدو الضرائب .. يرسلون من العاصمة البعيدة دون أي اعتبار للمواطنة أو الانتماء الجغرافي، ثم يتحول النفوذ الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة لصالح أشخاص وجماعات على صلة بالحاكم، أو ما يعرف في الأدبيات اليسارية بالبرجوازية الوطنية.
يوم فقد جبل عامل حكم الإقطاع تحول إلى بلاد قاحلة يحكمها الغرباء، ولا يطول أهلها سوى الذل والهوان والتشريد، أي أن الحكم الإقطاعي كان يمثل من وجهة نظر سياسية واجتماعية الحكم الوطني، في حين كان حكم الدولة يمثل الهيمنة الأجنبية، والخراب، والفقر، والهجرة إلى بلاد الله الأخرى.
ولست أشك أن الإقطاع كان شديد السطوة على الفلاحين، واتسمت علاقاته بهم في كثير من الأحيان بالغلظة. لكن الصلات الإنسانية لم تغب عن المشهد لحظة في مجتمع عشائري شرقي إسلامي، وكان هناك نوع من التكافل الاجتماعي تفرضه هذه الوشائج الإنسانية الرفيعة.
وعلينا أن ندرك أن الحكومات جميعاً، بما فيها تلك التي تمثل (الشرعية) السياسية، لم تتعامل مع الفلاحين الضعفاء بطريقة أفضل، ولم تغير من واقعهم في شيء، بل إنها دمرت اقتصاد البلاد، وجعلت الناس يرزحون تحت نير الفقر سنوات طويلة، وهي إذا ما قورنت بحكم الإقطاع، فإنها كانت كارثة كبرى بكل المقاييس والاعتبارات.
وبالطبع فإن الأحوال في العراق لم تكن تختلف عنها كثيراً، فأرض السواد تحولت بعد (الإصلاح الزراعي) إلى أرض يباب، لا زرع فيها ولا ضرع، حتى هاجر أهلها طوعاً أو كرهاً نحو العاصمة الشمالية بغداد .. أو الجنوبية البصرة!
ليس الهدف من إثارة هذا الموضوع التحسر على ماض مندثر، أو البكاء على طلل دارس، بل لإعادة دراسته من وجهة نظر (وطنية) بدون التفكير في نظريات ابتدعها العقل الغربي، وافتتن بها أصحابنا أيما افتتان.
لكل مرحلة زمنية ما يناسبها من الحكم, لكن العدالة تبقى هي حلم كل إنسان على وجه هذه الأرض، لأنها تقترن دائماً بالعيش الكريم.