لم يصدِّق الأدباء الشباب في المبنى الجديد للمنتدى أنَّ هواءً عليلاً يتدفَّقُ من أجهزة التبريد الحديثة ويداعبُ وجوههم التي اكتوتْ بنيران الحروب وبارود القنابل؛ فيما كان الشاعر الغجري نصيف الناصري يمضي نهاره في تلك البناية الحافلة بنسمات التبريد الناعمة صيفاً وهواء التدفئة الحنون شتاءً؛ ويغازل بالخفاء موظفات المنتدى المراهقات؛ إذْ أنَّ رئيس المنتدى خالد مطلك أصدر أمراً إدارياً بتعيين الشاعر الغجري سكرتيراً لمكتبه براتب سخي كما وعدهُ، لكنَّ الغجري لم يقبض سوى الوعود الخُلَّب. وكثيراً ما كان صديق الغجري بمعيِّة كزار حنتوش يزوران المنتدى؛ فيجدان نصيف الناصري يجلس خلف منضدة أنيقة يدخن سيجار سومر الثمين في تلك السنوات المتقشفة بسبب الحصار؛ فيهب لاستقبالهما فرحاً وحين يتذكر أنَّهُ بوظيفة رسمية يستبدل تعاملهُ معهما ليدعوهما بدبلوماسية مفتعلة للجلوس على مقاعد الانتظار لحين انتهاء رئيس المنتدى من اجتماع هام؛ بينما تطفح ابتسامة ذهول على ملامحهما لهذا التحول الدراماتيكي في حياة صديقهما الغجري. لكنَّ الذي لا يعرفه الجميع أنَّ خالد مطلك رئيس المنتدى بقامته القصيرة كان صعلوكاً هو الآخر؛ ولذا كان يحرص بعد انتهاء الدوام الرسمي على اصطحاب أترابه إلى أقرب حانة في الصالحية ليحتسوا هناك خمرتهم الرخيصة حتى ينصهر نور الشمس في موج دجلة؛ ليتوجَّهوا بعدها إلى حديقة اتحاد الأدباء ويختمون سهرتهم هناك. ولما كان صديق الغجري مع كزار حنتوش يجدان صعوبة في الحصول على مأوى آخر الليل، أصدر رئيس المنتدى أمراً شفوياً إلى الحارس «أبو حسين» يلزمهُ بفتح باب المبنى لهما حين يقبلان في ساعة متأخرة من الليل ويسمح لهما بالنوم على نسمات التبريد في الغرفة العلوية المخصصة لمجلة «أسفار». ويتذكر صديق الغجري أنهما استيقظا ذات صباح في تلك الغرفة ليجدا مدير تحرير مجلة أسفار بوجهٍ متجهم جالساً خلف منضدته ويراجع بعض النصوص التي وصلت إلى المجلة. وبعد أسابيع صدر أمر مباغت يمنعهما من المبيت في تلك البناية؛ ويبدو أنَّ رئيس المنتدى تلقَّى شكوى واحتجاجاً من حاشيته نتيجة إيوائه لهذين الصعلوكين في مكان رسمي؛ مما أجبرهُ على إصدار ذلك الأمر العاجل وحرمهما من ذلك الملاذ اللذيذ الذي يضاهي بأجوائه الباذخة غرفة نوم في فندق محترم. وقبل صدور أمر المنع هذا، وصلا ذات ليلة إلى بناية المنتدى في وقت متأخر من الليل وكان برفقتهما شاب غر متحمس لكتابة الشعر اسمه باسم محمد مرهون وقد غير اسمه إلى باسم فرات بعد خروجه من البلاد. ذلك الفتى الوسيم أصرَّ على مرافقتهما تلك الليلة، ليقضي معهما ليلة عبثية بامتياز؛ ولما دخلوا إلى المبنى لبث ذلك الشاب يرقبهما عن كثب وهما يشربان الخمر من بطحتي خمر كانت محشورتان في جيبهما؛ ويكتبان قصائد موجوعة في ساعة متأخرة من الليل لتنشرها الصحف بعد حين؛ ويتجادلان بشأن قصيدة التفعيلة ومستقبل قصيدة النثر. لم يصدق ذلك الفتى أنَّ الفجر بزغ حتى حمل قدميه متوارياً عن صعلكتهما ومن جنونهما. في ذلك الطقس المشحون بالجوع نتيجة حصار لئيم كان رئيس المنتدى خالد مطلك قد وضع اللمسات الأخيرة لإقامة ملتقى الشعر الثمانيني، وكانت إقامة ذلك المهرجان أشبه بالمستحيل لانعدام التمويل، أضف إلى أنَّ المؤسسة الثقافية لم تكن مقتنعة بجدوى مشروع قصيدة النثر، بل أنَّ بعض المسؤولين عن الثقافة كانوا يعتبرونها آفة خطيرة قادمة من الصهاينة لتدمير المنجز الإبداعي العربي والعراقي على وجه الخصوص، ولذا وجد رئيس المنتدى صعوبةً بالغةً في إقناع المسؤولين عن أهمية هذا الملتقى، وكان في مقدمة الذين تحمسوا لإقامته هو الشاعر محمد جاسم مظلوم مع آخرين، لكنَّهُ تبخَّر عن المشهد الثقافي فجأة؛ إذْ قرر الفرار من بطش السلطة الثقافية إلى دمشق؛ وكان من طلائع الأدباء الشباب الذين هربوا بجلودهم من البلاد؛ وترك مهمة إقامة الملتقى على عاتق الشاعرين عبد الزهرة زكي ومحمد تركي النصار اللَّذين دأبا على جمع نصوص شعراء الثمانينيات وإدامة الاتصال بكبار النقاد العراقيين. ذات ظهيرة دخل صديق الغجري على رئيس المنتدى خالد مطلك ليجد ابتسامة مضيئة على وجهه؛ كأنَّهُ يترقب قدومه؛ ليزف خبراً طالما انتظره مع الأدباء الشباب؛ ضرب مطلك وجه المكتب بقبضته وهتف بغبطةٍ:
- لقد وافقت وزارة الثقافة على إقامة ملتقى الشعر الثمانيني.