الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬18‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬18‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

لم‭ ‬يصدِّق‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬الجديد‭ ‬للمنتدى‭ ‬أنَّ‭ ‬هواءً‭ ‬عليلاً‭ ‬يتدفَّقُ‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬التبريد‭ ‬الحديثة‭ ‬ويداعبُ‭ ‬وجوههم‭ ‬التي‭ ‬اكتوتْ‭ ‬بنيران‭ ‬الحروب‭ ‬وبارود‭ ‬القنابل؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬الغجري‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬يمضي‭ ‬نهاره‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البناية‭ ‬الحافلة‭ ‬بنسمات‭ ‬التبريد‭ ‬الناعمة‭ ‬صيفاً‭ ‬وهواء‭ ‬التدفئة‭ ‬الحنون‭ ‬شتاءً؛‭ ‬ويغازل‭ ‬بالخفاء‭ ‬موظفات‭ ‬المنتدى‭ ‬المراهقات؛‭ ‬إذْ‭ ‬أنَّ‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬أصدر‭ ‬أمراً‭ ‬إدارياً‭ ‬بتعيين‭ ‬الشاعر‭ ‬الغجري‭ ‬سكرتيراً‭ ‬لمكتبه‭ ‬براتب‭ ‬سخي‭ ‬كما‭ ‬وعدهُ،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الغجري‭ ‬لم‭ ‬يقبض‭ ‬سوى‭ ‬الوعود‭ ‬الخُلَّب‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بمعيِّة‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬يزوران‭ ‬المنتدى؛‭ ‬فيجدان‭ ‬نصيف‭ ‬الناصري‭ ‬يجلس‭ ‬خلف‭ ‬منضدة‭ ‬أنيقة‭ ‬يدخن‭ ‬سيجار‭ ‬سومر‭ ‬الثمين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬المتقشفة‭ ‬بسبب‭ ‬الحصار؛‭ ‬فيهب‭ ‬لاستقبالهما‭ ‬فرحاً‭ ‬وحين‭ ‬يتذكر‭ ‬أنَّهُ‭ ‬بوظيفة‭ ‬رسمية‭ ‬يستبدل‭ ‬تعاملهُ‭ ‬معهما‭ ‬ليدعوهما‭ ‬بدبلوماسية‭ ‬مفتعلة‭ ‬للجلوس‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬الانتظار‭ ‬لحين‭ ‬انتهاء‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬من‭ ‬اجتماع‭ ‬هام؛‭ ‬بينما‭ ‬تطفح‭ ‬ابتسامة‭ ‬ذهول‭ ‬على‭ ‬ملامحهما‭ ‬لهذا‭ ‬التحول‭ ‬الدراماتيكي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬صديقهما‭ ‬الغجري‭. ‬لكنَّ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬الجميع‭ ‬أنَّ‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬بقامته‭ ‬القصيرة‭ ‬كان‭ ‬صعلوكاً‭ ‬هو‭ ‬الآخر؛‭ ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬يحرص‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الدوام‭ ‬الرسمي‭ ‬على‭ ‬اصطحاب‭ ‬أترابه‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬حانة‭ ‬في‭ ‬الصالحية‭ ‬ليحتسوا‭ ‬هناك‭ ‬خمرتهم‭ ‬الرخيصة‭ ‬حتى‭ ‬ينصهر‭ ‬نور‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬موج‭ ‬دجلة؛‭ ‬ليتوجَّهوا‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬ويختمون‭ ‬سهرتهم‭ ‬هناك‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬مع‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬يجدان‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مأوى‭ ‬آخر‭ ‬الليل،‭ ‬أصدر‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬أمراً‭ ‬شفوياً‭ ‬إلى‭ ‬الحارس‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬حسين‮»‬‭ ‬يلزمهُ‭ ‬بفتح‭ ‬باب‭ ‬المبنى‭ ‬لهما‭ ‬حين‭ ‬يقبلان‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬ويسمح‭ ‬لهما‭ ‬بالنوم‭ ‬على‭ ‬نسمات‭ ‬التبريد‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬العلوية‭ ‬المخصصة‭ ‬لمجلة‭ ‬‮«‬أسفار‮»‬‭. ‬ويتذكر‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنهما‭ ‬استيقظا‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الغرفة‭ ‬ليجدا‭ ‬مدير‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬أسفار‭ ‬بوجهٍ‭ ‬متجهم‭ ‬جالساً‭ ‬خلف‭ ‬منضدته‭ ‬ويراجع‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬المجلة‭. ‬وبعد‭ ‬أسابيع‭ ‬صدر‭ ‬أمر‭ ‬مباغت‭ ‬يمنعهما‭ ‬من‭ ‬المبيت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البناية؛‭ ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬تلقَّى‭ ‬شكوى‭ ‬واحتجاجاً‭ ‬من‭ ‬حاشيته‭ ‬نتيجة‭ ‬إيوائه‭ ‬لهذين‭ ‬الصعلوكين‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬رسمي؛‭ ‬مما‭ ‬أجبرهُ‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر‭ ‬العاجل‭ ‬وحرمهما‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الملاذ‭ ‬اللذيذ‭ ‬الذي‭ ‬يضاهي‭ ‬بأجوائه‭ ‬الباذخة‭ ‬غرفة‭ ‬نوم‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬محترم‭. ‬وقبل‭ ‬صدور‭ ‬أمر‭ ‬المنع‭ ‬هذا،‭ ‬وصلا‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬إلى‭ ‬بناية‭ ‬المنتدى‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬وكان‭ ‬برفقتهما‭ ‬شاب‭ ‬غر‭ ‬متحمس‭ ‬لكتابة‭ ‬الشعر‭ ‬اسمه‭ ‬باسم‭ ‬محمد‭ ‬مرهون‭ ‬وقد‭ ‬غير‭ ‬اسمه‭ ‬إلى‭ ‬باسم‭ ‬فرات‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬البلاد‭. ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬الوسيم‭ ‬أصرَّ‭ ‬على‭ ‬مرافقتهما‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬ليقضي‭ ‬معهما‭ ‬ليلة‭ ‬عبثية‭ ‬بامتياز؛‭ ‬ولما‭ ‬دخلوا‭ ‬إلى‭ ‬المبنى‭ ‬لبث‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬يرقبهما‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬وهما‭ ‬يشربان‭ ‬الخمر‭ ‬من‭ ‬بطحتي‭ ‬خمر‭ ‬كانت‭ ‬محشورتان‭ ‬في‭ ‬جيبهما؛‭ ‬ويكتبان‭ ‬قصائد‭ ‬موجوعة‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬لتنشرها‭ ‬الصحف‭ ‬بعد‭ ‬حين؛‭ ‬ويتجادلان‭ ‬بشأن‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬ومستقبل‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭. ‬لم‭ ‬يصدق‭ ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬أنَّ‭ ‬الفجر‭ ‬بزغ‭ ‬حتى‭ ‬حمل‭ ‬قدميه‭ ‬متوارياً‭ ‬عن‭ ‬صعلكتهما‭ ‬ومن‭ ‬جنونهما‭. ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الطقس‭ ‬المشحون‭ ‬بالجوع‭ ‬نتيجة‭ ‬حصار‭ ‬لئيم‭ ‬كان‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬اللمسات‭ ‬الأخيرة‭ ‬لإقامة‭ ‬ملتقى‭ ‬الشعر‭ ‬الثمانيني،‭ ‬وكانت‭ ‬إقامة‭ ‬ذلك‭ ‬المهرجان‭ ‬أشبه‭ ‬بالمستحيل‭ ‬لانعدام‭ ‬التمويل،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬المؤسسة‭ ‬الثقافية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مقتنعة‭ ‬بجدوى‭ ‬مشروع‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬بل‭ ‬أنَّ‭ ‬بعض‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬كانوا‭ ‬يعتبرونها‭ ‬آفة‭ ‬خطيرة‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬الصهاينة‭ ‬لتدمير‭ ‬المنجز‭ ‬الإبداعي‭ ‬العربي‭ ‬والعراقي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬ولذا‭ ‬وجد‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬صعوبةً‭ ‬بالغةً‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الملتقى،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الذين‭ ‬تحمسوا‭ ‬لإقامته‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬جاسم‭ ‬مظلوم‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬تبخَّر‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬فجأة؛‭ ‬إذْ‭ ‬قرر‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬السلطة‭ ‬الثقافية‭ ‬إلى‭ ‬دمشق؛‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬طلائع‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬هربوا‭ ‬بجلودهم‭ ‬من‭ ‬البلاد؛‭ ‬وترك‭ ‬مهمة‭ ‬إقامة‭ ‬الملتقى‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الشاعرين‭ ‬عبد‭ ‬الزهرة‭ ‬زكي‭ ‬ومحمد‭ ‬تركي‭ ‬النصار‭ ‬اللَّذين‭ ‬دأبا‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬نصوص‭ ‬شعراء‭ ‬الثمانينيات‭ ‬وإدامة‭ ‬الاتصال‭ ‬بكبار‭ ‬النقاد‭ ‬العراقيين‭.  ‬ذات‭ ‬ظهيرة‭ ‬دخل‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬على‭ ‬رئيس‭ ‬المنتدى‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬ليجد‭ ‬ابتسامة‭ ‬مضيئة‭ ‬على‭ ‬وجهه؛‭ ‬كأنَّهُ‭ ‬يترقب‭ ‬قدومه؛‭ ‬ليزف‭ ‬خبراً‭ ‬طالما‭ ‬انتظره‭ ‬مع‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب؛‭ ‬ضرب‭ ‬مطلك‭ ‬وجه‭ ‬المكتب‭ ‬بقبضته‭ ‬وهتف‭ ‬بغبطةٍ‭: ‬

‭- ‬لقد‭ ‬وافقت‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬ملتقى‭ ‬الشعر‭ ‬الثمانيني‭.‬


مشاهدات 268
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/06/10 - 3:25 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 9:44 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 322 الشهر 11446 الكلي 9361983
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير