حسن النواب
لما عادا إلى الفندق؛ عرف صديق الغجري أنَّ أنباء الجلسة الشعرية العاصفة قد وصلت إلى مسامع المسؤولين، فيما كانت رائحة العرق المحلي “الفل” تفوح من الغرفة 714 وتنتشر في رواق الطابق السابع بشكلٍ سافرٍ؛ حدَّ أنَّ المقيمين في ذلك الطابق كانوا يضعون أكفهم على أنوفهم تفادياً من استنشاق الرائحة الكريهة؛ فتوقعوا طردهم من المكان عاجلاً أم آجلاً؛ إذْ ليس من المعقول أنْ يكون الوضع بهذا السوء وفي فندق الشيراتون الذي يزهو بحلَّتهِ القشيبة. المعضلة التي واجهتهم هي أنَّ المانعي كان ينتعلُ خفَّاً وليس حذاءًً وأصرَّتْ إدارة الفندق على إبعاده؛ فجمع الصعاليك نقوداً حتى يشتري حذاءً ويبقى معهم. كانوا في الغرفة قلقين كأنَّهم يجلسون فوق كف عفريت؛ حتى وصلتهم توصية لؤي حقي رئيس المهرجان وهو ابن الرئيس الثالث؛ كما كان يُطلق عليه من قبل الناس، وصلت توصيتهُ حازمة إلى مسامع إدارة الفندق:
- دعوهم يسكرون؛ فبعد أيام سيرجعون إلى الجبهات وإلى طرقات الحرمان.
الواقع أنَّ هذه التوصية الثمينة لم تصل بشكل مباشر لطائفة الصعاليك؛ ولكن أشاعها رعيته من الشعراء، لكنَّ الصعاليك شعروا باهتمام إدارة المهرجان بهم، إذْ صار الطعام يصل إلى الغرفة، لأنَّ كزار حنتوش يرفض النزول لتناول الطعام في مطعم الفندق بسبب هندامه؛ بالوقت الذي كان الكاتب الصحفي الأبهق يتحين الفرصة لمعاتبة عدنان الصائغ على عاموده الصحفي الذي كتبه في مجلة حراس الوطن والذي ناشد بسطوره حماية الأديب من الغرباء الذين يدخلون الى نادي الأدباء، بعد أنْ تعرَّض أحد الأفيال الشعرية إلى طعنات من قبل الصحفي الأبهق في باب الاتحاد؛ بسبب تطاول ذلك الفيل الشعري بكلام سخيف ومغرض على الأدباء الهاربين من الحرب؛ وانتهى المهرجان بسلام؛ فيما صار صديق الغجري يرافق كزار حنتوش كلما هبط من جبهة الحرب في إجازة؛ وقد استرعى انتباهه أنًّ كزار لا يتعرَّق أبداً حتى لو كانت الساعة تشير إلى انتصاف النهار في عزِّ صيف، فسألهُ بفضول عن ذلك وكان ردَّه غريباً:
- جلدي بدوي لأني لا استحم إلاَّ نادراً.
بينما كان صديق الغجري لا يتخلَّى عن منديله حتى في موسم الشتاء؛ كأنَّ هناك حنفية مزروعة تحت جلده تنزُّ العرق، فأخبرهُ كزار كمن ينصحهُ:
- لأنَّ جلدك رقيق؛ يطلقُ العرق بغزارة.
ولذا قرر صديق الغجري ألاَّ يستحم عسى أنْ تغلق مسامات جلده ويتخلَّص من نزيف العرق الذي يزعجه ويربكه أمام الآخرين. لكنهما ذات شتاء عزما الدخول إلى حمَّام شعبي؛ وكانت مناسبة الاستحمام لحضور أمسية للشاعر يوسف الصائغ أقامها منتدى الأدباء الشباب في مركز الفنون الكائن بشارع حيفا، تمكنا من الوصول إلى مكان الأمسية بالوقت المناسب، كانت القاعة ممتلئة بالحاضرين تتقدمهم الفنانة ليلى العطار بعينيها البدويتين الغارقتين بالكحل وهي ترتدي الساري الهندي بلونه الذهبي الذي أضفى على طلعتها الفاتنة سحراً مثيراً، وكان الاتفاق الذي أبرم قبل يومين مع رئيس منتدى الأدباء الشباب خالد مطلك أنْ يقدم الأمسية الشاعر كزار حنتوش، لكنَّ الوجوه التي استقبلتهما في داخل القاعة كانت متجهمة؛ وشعر الحنتوش أنَّ هناك محاولة خبيثة لإبعاده عن تقديم الأمسية؛ وقدْ اتَّخذ الشاعر يوسف الصائغ محله خلف طاولة في منتصف القاعة، فجأة هبَّ كزار من مقعده وأغار حانقاً نحو الصائغ وبصوت صارم قال كمن يأمره:
- أبو مريم؛ أنا من يقدمك بهذه الأمسية.
لبث الصائغ ينظر بعينين باسمتين نحوه ولم ينبس بكلمة، فيما أردف كزار:
- أما يكفي أني تحمَّمتُ حتى أكون أنيقاً لأجلك.
ضحك الشاعر الصائغ من أعماق وجدانه وقلبه وقال:
- ولن أقبل بسواك عريفاً في هذه الأمسية.
كان كزار بصحو تام وقد أبهر الحاضرين بتقديمه العفوي الشفاف الذي شنف مسامع الجميع لرقَّة عذوبته المتدفقة كعسل مختوم من خلية رأسه المزدحمة بالصهيل والغناء والبكاء والألم؛ فيما كانت الفنانة ليلى العطار مأخوذة بحضور كزار الذي استحوذ على مشاعرها حين قال:
- كم أنت محظوظ يا صديقي أبا مريم؛ فقد حضرت حورية من الجنَّة لتسمع شعرك.