الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬16‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬16‭)‬

حسن‭ ‬النواب

‭ ‬

في‭ ‬أيام‭ ‬مهرجان‭ ‬المِربد‭ ‬يحرص‭ ‬الشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬وكان‭ ‬وكيلاً‭ ‬لوزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬مع‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭. ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬أبلغ‭ ‬أبو‭ ‬بادية‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بزيارته‭ ‬لهما‭ ‬لقضاء‭ ‬سهرته،‭ ‬فاقترح‭ ‬عليه‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنْ‭ ‬يصطحب‭ ‬يوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬معهُ‭ ‬فرحَّب‭ ‬بالفكرة‭. ‬كان‭ ‬لابدَّ‭ ‬من‭ ‬تجهيز‭ ‬الغرفة‭ ‬بالمشروبات‭ ‬الروحية،‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬صعب‭ ‬المنال‭ ‬في‭ ‬ظلِّ‭ ‬الحملة‭ ‬الإيمانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مهيمنة‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬فقد‭ ‬أُغلقتْ‭ ‬جميع‭ ‬البارات‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬فنادق‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬وكان‭ ‬المدعوون‭ ‬إلى‭ ‬مهرجان‭ ‬المربد‭ ‬يجدون‭ ‬صعوبة‭ ‬بالغة‭ ‬في‭ ‬إدخال‭ ‬الكحول‭ ‬إلى‭ ‬غرفهم؛‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬حقائبهم‭ ‬ومستلزماتهم‭ ‬تخضع‭ ‬للتفتيش‭ ‬الدقيق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أمن‭ ‬الفندق‭. ‬انطلق‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬إلى‭ ‬حانوت‭ ‬بيع‭ ‬الخمور‭ ‬في‭ ‬الصالحية‭ ‬ومن‭ ‬حسابه‭ ‬الخاص‭ ‬اشترى‭ ‬قارورتين‭ ‬من‭ ‬العرق؛‭ ‬خبأهما‭ ‬تحت‭ ‬قميصه‭ ‬وقد‭ ‬حشرهما‭ ‬تحت‭ ‬حزام‭ ‬بنطلونه؛‭ ‬ونجح‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬المتأهبين‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬المصعد؛‭ ‬ولما‭ ‬دخل‭ ‬الغرفة‭ ‬وجد‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬مع‭ ‬يوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬بانتظاره‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬كزار‭ ‬يغطُّ‭ ‬بنوم‭ ‬عميق‭ ‬على‭ ‬السرير؛‭ ‬رفع‭ ‬قميصهُ‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى‭ ‬فأبصر‭ ‬الضيفان‭ ‬الزجاجتين‭ ‬المغروستين‭ ‬خلف‭ ‬حزامه‭ ‬بذهول‭ ‬فيما‭ ‬علَّق‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭:‬

‭- ‬لو‭ ‬اكتشف‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬ما‭ ‬أحمل‭ ‬تحت‭ ‬قميصي؛‭ ‬لقطعوا‭ ‬أذني‭.‬

ضحك‭ ‬يوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬ولاذ‭ ‬الآخر‭ ‬بصمت‭ ‬خجول،‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬حملة‭ ‬بتر‭ ‬الألسنة‭ ‬والآذان‭ ‬على‭ ‬أشدِّها،‭ ‬رفعوا‭ ‬أنخابهم‭ ‬وبدأ‭ ‬حميد‭ ‬بقراءة‭ ‬قصيدته‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬مسامعهم‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭ “‬نص‭ ‬تكعيبي‭”‬،‭ ‬أفاق‭ ‬كزار‭ ‬وحين‭ ‬شاهدهما‭ ‬هتف‭ ‬مبتهجاً‭:‬

‭- ‬اللهم‭ ‬صلِّ‭ ‬على‭ ‬محمد‭ ‬وآل‭ ‬محمد‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬تكوينها‭ ‬ومغايرة‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬اعتادوا‭ ‬عليها،‭ ‬فلم‭ ‬يتفاعل‭ ‬كزار‭ ‬وصديق‭ ‬الغجري‭ ‬معها؛‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬ترق‭ ‬للصائغ‭ ‬أيضاً‭ ‬لكنَّ‭ ‬خجله‭ ‬منعه‭ ‬عن‭ ‬إفصاح‭ ‬رأيه‭ ‬فيها؛‭ ‬وأدرك‭ ‬حميد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬فيما‭ ‬حمل‭ ‬كزار‭ ‬كأساً‭ ‬ثقيلة‭ ‬وخرج‭ ‬إلى‭ ‬الشرفة؛‭ ‬كرع‭ ‬نصف‭ ‬الكأس‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬بيده‭ ‬الأخرى‭ ‬نحو‭ ‬ضفة‭ ‬بعيدة‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬حيث‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري،‭ ‬ليخاطب‭ ‬حميد‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يتوقعه‭:  ‬

‭- ‬حميد؛‭ ‬ربما‭ ‬الجماعة‭ ‬يشربون‭ ‬مثلنا‭ ‬هناك؟

رفع‭ ‬أبو‭ ‬بادية‭ ‬كأسه‭ ‬وقال‭ ‬ليغيِّر‭ ‬دفَّة‭ ‬الحديث‭: ‬

‭- ‬كزار؛‭ ‬سنغادر‭ ‬الجلسة‭ ‬ولم‭ ‬نسمع‭ ‬شعرك‭ ‬بعد‭.‬

واصل‭ ‬كزار‭ ‬خطابه‭ ‬كأنَّهُ‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬رغبة‭ ‬حميد‭:‬

‭- ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬يسكر‭ ‬الرئيس؛‭ ‬سيقف‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬القصر‭ ‬ويصيح‭ ‬هذه‭ ‬بغداد‭ ‬مُلكي؛‭ ‬مُلكي‭ ‬وحدي‭. ‬

هيمن‭ ‬صمتٌ‭ ‬حرج‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬فيما‭ ‬عاد‭ ‬كزار‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬ليجلس‭ ‬بجوار‭ ‬حميد؛‭ ‬لثمَ‭ ‬خدَّه‭ ‬برفق‭ ‬ثم‭ ‬سألهُ‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يدعوك‭ ‬للجلوس‭ ‬مع‭ ‬صعلوكين‭ ‬وأنت‭ ‬وكيل‭ ‬وزير؟

‭- ‬لأني‭ ‬أشمُّ‭ ‬بكما‭ ‬رائحة‭ ‬الشعر‭.‬

‭- ‬وماذا‭ ‬بعد؟

‭- ‬وثوبكما‭ ‬الصدق‭ ‬والصراحة‭.‬

فجأةً‭ ‬غير‭ ‬كزار‭ ‬مجرى‭ ‬الكلام‭ ‬قائلاً‭: ‬

‭- ‬حميد؛‭ ‬أدعوك‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬أكثر‭ ‬بأبي‭ ‬مريم‭.‬

أجاب‭ ‬حميد‭ ‬بحنان‭:‬

‭- ‬أنتَ‭ ‬تأمر؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬أبا‭ ‬مريم‭ ‬لا‭ ‬ينقصهُ‭ ‬شيء‭.‬

كان‭ ‬يوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬يتبوأ‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬منصب‭ ‬مدير‭ ‬عام‭ ‬السينما‭ ‬والمسرح،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬كزار‭ ‬أمسك‭ ‬بذقن‭ ‬حميد‭ ‬وراح‭ ‬يتأمل‭ ‬بعينيه‭ ‬وقال‭ ‬بعفوية‭ ‬ساحرة‭:‬

‭- ‬حبيبي؛‭ ‬ليس‭ ‬عندنا‭ ‬سوى‭ ‬يوسف‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬العراق‭.‬

ضحكَ‭ ‬الصائغ‭ ‬من‭ ‬حشاشة‭ ‬قلبه‭ ‬وشفط‭ ‬كأسه‭ ‬بمسرَّةٍ؛‭ ‬فيما‭ ‬بدأ‭ ‬حميد‭ ‬بقراءة‭ ‬قصيدة‭ ‬الأمير‭ ‬الفقير‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭:‬

‭”‬كان‭ ‬شوك‭ ‬اسمه‭ ‬وحرير‭ ‬الكلامْ

يسهران‭ ‬معاً‭…‬

ويقيمان‭ ‬عرس‭ ‬المواجد‭ ‬للشيبِ

تحنو‭ ‬قصائدهُ

وتدير‭ ‬الكؤوسَ‭ ‬لأترابهِ‭ ‬في‭ ‬الغيابْ

فإنْ‭ ‬غضبَ‭ ‬النادلُ‭ ‬البخيلُ

وطالبها‭ ‬بالحسابْ

شاكستهُ‭ ‬وألقتْ‭ ‬لهُ‭ ‬حجراً‭ ‬في‭ ‬الشرابْ

منزل‭ ‬في‭ ‬الهجير‭… ‬ومنزلة‭ ‬بين‭ ‬منزلتين

جمر‭ ‬الغضا‭ ‬وتفاحة‭ ‬الزمهريرْ‭ “‬

وبينما‭ ‬كان‭ ‬يواصل‭ ‬القراءة‭ ‬غفا‭ ‬كزار‭ ‬باطمئنان‭ ‬على‭ ‬ذراع‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬وانطفأت‭ ‬الجلسة‭.‬


مشاهدات 491
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/05/27 - 5:51 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 11:16 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 347 الشهر 11471 الكلي 9362008
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير