في أيام مهرجان المِربد يحرص الشاعر حميد سعيد وكان وكيلاً لوزارة الثقافة على زيارة الغرفة التي تجمع صديق الغجري مع كزار حنتوش. ذات ليلة أبلغ أبو بادية صديق الغجري بزيارته لهما لقضاء سهرته، فاقترح عليه صديق الغجري أنْ يصطحب يوسف الصائغ معهُ فرحَّب بالفكرة. كان لابدَّ من تجهيز الغرفة بالمشروبات الروحية، وهو أمرٌ صعب المنال في ظلِّ الحملة الإيمانية التي كانت مهيمنة على الجميع في ذلك الوقت، فقد أُغلقتْ جميع البارات حتى في فنادق الدرجة الأولى، وكان المدعوون إلى مهرجان المربد يجدون صعوبة بالغة في إدخال الكحول إلى غرفهم؛ إذْ كانت حقائبهم ومستلزماتهم تخضع للتفتيش الدقيق من قبل أمن الفندق. انطلق صديق الغجري إلى حانوت بيع الخمور في الصالحية ومن حسابه الخاص اشترى قارورتين من العرق؛ خبأهما تحت قميصه وقد حشرهما تحت حزام بنطلونه؛ ونجح من عبور رجال الأمن المتأهبين في باب المصعد؛ ولما دخل الغرفة وجد حميد سعيد مع يوسف الصائغ بانتظاره بينما كان كزار يغطُّ بنوم عميق على السرير؛ رفع قميصهُ إلى الأعلى فأبصر الضيفان الزجاجتين المغروستين خلف حزامه بذهول فيما علَّق صديق الغجري:
- لو اكتشف رجال الأمن ما أحمل تحت قميصي؛ لقطعوا أذني.
ضحك يوسف الصائغ ولاذ الآخر بصمت خجول، إذْ كانت حملة بتر الألسنة والآذان على أشدِّها، رفعوا أنخابهم وبدأ حميد بقراءة قصيدته الجديدة على مسامعهم وكانت بعنوان “نص تكعيبي”، أفاق كزار وحين شاهدهما هتف مبتهجاً:
- اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.
كانت القصيدة غريبة في تكوينها ومغايرة عن تجربة حميد سعيد الشعرية التي اعتادوا عليها، فلم يتفاعل كزار وصديق الغجري معها؛ وربما لم ترق للصائغ أيضاً لكنَّ خجله منعه عن إفصاح رأيه فيها؛ وأدرك حميد ذلك من الصمت الذي هيمن على المكان، فيما حمل كزار كأساً ثقيلة وخرج إلى الشرفة؛ كرع نصف الكأس وهو يشير بيده الأخرى نحو ضفة بعيدة من نهر دجلة حيث القصر الجمهوري، ليخاطب حميد بما لا يتوقعه:
- حميد؛ ربما الجماعة يشربون مثلنا هناك؟
رفع أبو بادية كأسه وقال ليغيِّر دفَّة الحديث:
- كزار؛ سنغادر الجلسة ولم نسمع شعرك بعد.
واصل كزار خطابه كأنَّهُ لم يسمع رغبة حميد:
- بعد أنْ يسكر الرئيس؛ سيقف في شرفة القصر ويصيح هذه بغداد مُلكي؛ مُلكي وحدي.
هيمن صمتٌ حرج على الجميع فيما عاد كزار إلى الغرفة ليجلس بجوار حميد؛ لثمَ خدَّه برفق ثم سألهُ:
- ما الذي يدعوك للجلوس مع صعلوكين وأنت وكيل وزير؟
- لأني أشمُّ بكما رائحة الشعر.
- وماذا بعد؟
- وثوبكما الصدق والصراحة.
فجأةً غير كزار مجرى الكلام قائلاً:
- حميد؛ أدعوك إلى الاهتمام أكثر بأبي مريم.
أجاب حميد بحنان:
- أنتَ تأمر؛ لكنَّ أبا مريم لا ينقصهُ شيء.
كان يوسف الصائغ يتبوأ في حينها منصب مدير عام السينما والمسرح، غير أنَّ كزار أمسك بذقن حميد وراح يتأمل بعينيه وقال بعفوية ساحرة:
- حبيبي؛ ليس عندنا سوى يوسف واحد في العراق.
ضحكَ الصائغ من حشاشة قلبه وشفط كأسه بمسرَّةٍ؛ فيما بدأ حميد بقراءة قصيدة الأمير الفقير والتي كانت مهداة إلى كزار حنتوش:
”كان شوك اسمه وحرير الكلامْ
يسهران معاً…
ويقيمان عرس المواجد للشيبِ
تحنو قصائدهُ
وتدير الكؤوسَ لأترابهِ في الغيابْ
فإنْ غضبَ النادلُ البخيلُ
وطالبها بالحسابْ
شاكستهُ وألقتْ لهُ حجراً في الشرابْ
منزل في الهجير… ومنزلة بين منزلتين
جمر الغضا وتفاحة الزمهريرْ “
وبينما كان يواصل القراءة غفا كزار باطمئنان على ذراع حميد سعيد وانطفأت الجلسة.