حسن النواب
كانت أمسية مثيرة في كل شيء، بدءاً من ضيفين مُعتبرين حضرا إلى الغرفة؛ إذْ ذهب صديق الغجري بنفسه لاصطحابهما من داريهما، وهما الشاعر رشدي العامل والقاص فهد الأسدي. توافد الشعراء إلى الغرفة خزعل الماجدي وجواد الحطاب وهادي ياسين وحميد قاسم وإبراهيم البهرزي وأحمد المانعي وأمين جياد وحشد من الصعاليك بوصفهم أصدقاء الشاعر كزار حنتوش الذي يمتلك الغرفة مع منذر عبد الحر. كان حضور رشدي العامل وفهد الاسدي غير المتوقع قد شكَّل صدمة لإدارة المهرجان ودخلوا في حالة انذار المهرجان؛ ولذا كان أحد الشعراء من الذين توافدوا إلى الغرفة قد أنيط به دور المخبر عمَّا سيحدث بتلك الأمسية؛ أدرك الجميع ذلك من صمته وعينيه القلقتين طوال الجلسة. بدأت السهرة بقراءات حرَّة كما اقترح العامل، وافتتحها صوته الرقيق بقصيدة غنائية عذبة؛ فيما كان كزار حنتوش يلثم وجه العامل بين سطر وآخر وهو بمنتهى الثمالة، وقرأ الماجدي قصيدة متوهجة ثم تبعهُ الحطَّاب بقصيدة حفلت بالمفارقات، ونثر هادي ياسين تبرَ شعره على المكان، وأنشد المانعي قصيدة قصيرة غامضة، لما وصل الدور الى كزار؛ سألهم ماذا تريدون؟ أجابهُ أحدهم نسمع شعرك؛ وإذا به يبوس خدِّ العامل وقال:
- هل هناك أجمل من هذه القصيدة؟
كانت في حينها كؤوس العرق تركض إلى شفاه الجميع باستثناء مخبر الغرفة؛ وجاء الدور لصديق الغجري وقرأ قصائد قصيرة، لكنَّ ارتباكه الشديد أمام هذه الكوكبة من الشعراء أضاع من حنجرته طريقة إنشاد تلك القصائد فلم تترك أثراً عن الحاضرين؛ ولما وصل الدور إلى البهرزي الذي كان يرتدي دشداشة بيضاء، نهض بثمالة واضحة ليقف فوق السرير لكنَّهُ سرعان ما هوى؛ فتلقفتهُ يد العامل قبل سقوطه على الأرض وطبع قبلة على جبينه. عاد البهرزي ليقف فوق السرير من جديد والقصيدة بيده، أطلق زفرة طويلة وأنشد قصيدته بلغةٍ كأنها نيازك في سماء معتمة؛ كانت القصيدة طويلة لم يتمكن البهرزي من مواصلة الإنشاد بها؛ إذْ كان يقف ويطيح من شدة الانفعال والوجع الذي يعصف بصدره؛ وقد خذلته الشكيمة فهوى مثل شمعة منصهرة على الأرض وكاد يشجُّ رأسه لولا الأكف التي تلقفتهُ قبل أنْ تحل المصيبة. لكنَّ ما قرأهُ ترك هزَّة شديدة لدى الجميع؛ لأنَّ الشعراء لم يألفوا من البهرزي هذا الشكل الفني الجديد من قبل؛ إذْ اعتادوا على قصائده القصار الذي كان ينشرها في جريدة الجمهورية. كان كزار يرتدي بنطلوناً بالياً يعلن عن فقره المدقع؛ وقميصاً مُترباً من كثرة ما تجمع عليه من عرق جسده وغبار الطرقات؛ وبرغم هيأته الرثَّة لكنَّه كان بعيون الحاضرين مثل شمعة حنون تنشر نورها الملائكي في فضاء الغرفة. استمرت الجلسة إلى ساعة متأخرة من الجنون والشعر والخمر، حتى أخذ صديق الغجري بيد رشدي العامل إلى بيته في الحارثية وعاد عند مطلع الفجر ليجد كزار جالساً على رصيف الفندق يدخن بشراهة ويتطلع إلى السماء مهموماً كأنَّهُ يـتأمل هبوط جرعة خمر من السماء؛ وإذا بصديق الغجري ينتشل بطحة عرق من جيب معطفه ليضعها بيد كزار الذي سرعان ما عبَّ ما فيها إلى جوفه بجرعة طويلة؛ ثم نبس:
- أنقذتني يا هذا.
غمرهُ الحبور حين سمع ذلك وطبع قبلة على وجه كزار الذي لم يكن يعرف صديق الغجري من قبل وقد نهض عن الرصيف بنشاط ملحوظ ونبس:
- الآن؛ بوسعي رؤية بغداد بوضوح.
وانطلق إلى شارع «أبو نؤاس» كانت مصابيح حانة الحمراء مازالت مشتعلة؛ فهرع نحوها وهو يحثُّ صديق الغجري:
- أعشق حانة الحمراء؛ هيَّا عسى أنْ أجد فيها ما يطفئ ظمأي.
ضحك صديق الغجري وقال:
- تبقى شيوعيَّاً.
ابتسم كزار وأومأ بيده النحيلة:
- تعال؛ تعال؛ من أنت رجاءً؟
أجاب صديق الغجري:
- أنا مغرمٌ بك وحق الحسين.
طغتْ غبطة على وجه كزار الذابل؛ وأمسك بموضع قلبه وهو يجلس على الرصيف قائلاً:
- سأموت من الفرح.
ثم أردف:
- كأني أطول قامة من بناية فندق الشيراتون.
وغفى على يد صديق الغجري. «يتبع…