حسن النواب
ذات ظهيرة نحسة عزم كزار حنتوش مع صديق الغجري زيارة الحلة لحضور أمسية سيقيمها اتحاد أدباء بابل للشاعر حميد سعيد، ولما وصلا إلى بناية الاتحاد فوجئا أنَّ بوابته كانت مغلقة، ولذا دلفا إلى حانةٍ تابعةٍ لبناية الاتحاد وشربا زجاجتين من الجعة واستفسر كزار من النادل عن سبب غلق باب الاتحاد الذي أجابهُ بنبرة حزن مفتعلة:
- جميع الأدباء ذهبوا لتقديم واجب العزاء للشاعر حميد سعيد.
نهض كزار مفزوعاً عند سماعه النبأ وسأل النادل بارتباك:
- ومن الذي توفَّى؟
- والدهُ؛ يرحمهُ الله.
أطلق كزار حسرة قصيرة وعاد ليجلس على مقعده، قال بفتور:
- لنشرب قارورة أخرى ونذهب نقدِّم العزاء لأبي بادية.
كرع من فم الزجاجة جرعة طويلة وقال لصديق الغجري بأسف:
- حميد غير محظوظ بالأماسي؛ أتذكرْ يوم وافق على دعوتي لإقامة أمسية لهُ في الديوانية؟ وحضر الرجل؛ لكني نسيت موعد الأمسية فعاد دون أن يقرأ شعره، وظننت أنَّ فعلتي النكراء تلك لن يغفرها لي، لكنه استقبلني بحفاوة بعد أسبوع ولم يتطرَّق لتلك الأمسية أبداً، لو كان غيره من المؤكد سيطردني من الباب.
شفط جرعة أخرى وأردف:
- واليوم يرحل والده بتوقيت غير مناسب مع أمسية أخرى لهُ؛ يا لحظهُ التعيس.
والواقع أنَّ اتحاد أدباء الحلة برئاسة الشاعر سعد جاسم كان قد أعدَّ العُدًّة لحلقة دراسية على مدى ثلاثة أيام للشاعر حميد سعيد تتناول شعره؛ ولم تكن أمسية لساعات فحسب، ولكن كل شيء قد قوِّضَ الآن مع رحيل أبيه رحمه الله. تركا الحانة واكتريا سيارة أجرة إلى جامع كبير وسط مدينة الحلة، ولما أصبحا قبالة الجامع داهمتهما الدهشة؛ فقد كانت الحشود تسير زرافات لتقديم مراسيم العزاء، فيما ازدحمت مركبات حكومية فارهة سوداء في الشارع المقابل لمكان العزاء، تردَّدا لأول وهلةٍ من الذهاب إلى الجامع، بل إنَّ كزار اقترح على مسامع صديق الغجري:
- لنعدْ بأدراجنا؛ الوجوه ليستْ وجوهنا.
غير أنَّ إيماءة أحد أدباء الحلة بيده من الذين وقفوا بطابور طويل لاستقبال المعزين؛ شجَّعتهما للتقدم بخطوات مرتبكة بين صفيّن من الرجال حتى ولجا إلى قاعة الجامع ليجلسا على أقرب أريكة صادفتهما. نبسا بسورة الفاتحة وعيونهم هلعةً تجول على الحاضرين؛ حتى أطلَّ الشاعر حميد سعيد وعلى وجهه ابتسامة واضحة مرحِّباً بهما:
- الله بالخير.
نطقا معاً بتينك الكلمتين العذبتين:
- الله بالخير.
سرعان ما غاب عن أنظارهم التي ما فتئتْ تستطلع وجوه الحاضرين في قاعة الجامع؛ فيما بدأتْ أنفاسهم تضيق؛ كأنَّ شهقات الهواء تفرُّ فزعةً من رئتيهما، وهما يبصران كوكبة من النجوم والتيجان والسيوف والسعف الذهبي تلمعُ على أكتاف الوزراء؛ همس كزار بحذر:
- القصر الجمهوري كله هنا؛ ما هذه الورطة يا إلهي.
شربا القهوة المُرَّة على عجل لمغادرة المكان. كانت قاعة الجامع مليئة بالوزراء يتوسطهم محمد حمزة الزبيدي رئيس الوزراء آن ذاك، ربما كان الرئيس حاضرا أيضاً، فما عادا يجرؤان على رفع نظريهما أمام هذه القافلة من الذين يتوشحون بالزيتوني والنياشين الرئاسية الفخمة، فجأةً صاح كزار على أحد خدَّام الجامع:
- سجائر رحمة على والديك.
لم يتوقع صديق الغجري أنْ تصدر من كزار تلك الصيحة أمام رجال القصر الجمهوري فهمس لهُ موبِّخاً:
- هل وقت سجائر الآن يا كزار.
- ما فرقنا عنهم؛ هم جاءوا للعزاء ونحن كذلك.
بدأ كزار يدخن بمفرده؛ ربما كان هو الكائن الوحيد بين المعزين داخل قاعة الجامع الذي ينفث سحب الدخان أمام حشود الوزراء، وربما وجدها فرصة لا تتكرر للتشفِّي بهم والتعبير عن كبريائه كشاعر، وإذا بأحد الصبيان المجاذيب يدنو منهما ليستجدي النقود، فنبس كزار ساخراً:
- يا لغبائك؛ ألم تجدْ سوانا تتسوَّلُ منهُ؟
وأخرج كزار عملة ورقية بسيطة حرص أنْ يراهُ جميع الوزراء قبل أنْ يضعها بيد الصبي المخبول وهو يقول:
- خذها وانصرف؛ لا بارك الله فيك.
الغريب أنَّ ذلك الغلام المجنون لم يطلب النقود إلاَّ منهما، ربما لخشيته الاقتراب من زمرة الوزراء المحترمين. أكمل كزار تدخين سيجارته وهتف:
- الفاتحة.
فبسمل الوزراء وكبار الشخصيات، ولما أصبحا خارج القاعة؛ لمح صديق الغجري حميد سعيد يقف بأول طابور المستقبلين من جهة اليسار فدنا منهُ وصافحهُ وتبادلا قبلات العزاء؛ فيما انصرف كزار دون أنْ يلقي تحية العزاء على أبي بادية الذي تساءل وعلى وجهه طيف ابتسامة فاترة:
- ما به كزار؛ أراهُ يخرج منزعجاً؟
لقد فاجأَ تصرُّف كزار الغريب صديق الغجري أيضاً؛ فقال مبرِّراً:
- لم يتمكَّن من إلقاء السلام عليك؛ لأنَّهُ حزين ومرتبك.
تبسَّم حميد سعيد مرَّة أخرى وهمس بأذن صديق الغجري:
- سهرتكما هذه الليلة على حسابي؛ تجد النقود لدى شكر الصالحي؛ تحياتي إلى أبي سلام.