الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬15‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬15‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

ذات‭ ‬ظهيرة‭ ‬نحسة‭ ‬عزم‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬مع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬زيارة‭ ‬الحلة‭ ‬لحضور‭ ‬أمسية‭ ‬سيقيمها‭ ‬اتحاد‭ ‬أدباء‭ ‬بابل‭ ‬للشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد،‭ ‬ولما‭ ‬وصلا‭ ‬إلى‭ ‬بناية‭ ‬الاتحاد‭ ‬فوجئا‭ ‬أنَّ‭ ‬بوابته‭ ‬كانت‭ ‬مغلقة،‭ ‬ولذا‭ ‬دلفا‭ ‬إلى‭ ‬حانةٍ‭ ‬تابعةٍ‭ ‬لبناية‭ ‬الاتحاد‭ ‬وشربا‭ ‬زجاجتين‭ ‬من‭ ‬الجعة‭ ‬واستفسر‭ ‬كزار‭ ‬من‭ ‬النادل‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬غلق‭ ‬باب‭ ‬الاتحاد‭ ‬الذي‭ ‬أجابهُ‭ ‬بنبرة‭ ‬حزن‭ ‬مفتعلة‭:‬

‭- ‬جميع‭ ‬الأدباء‭ ‬ذهبوا‭ ‬لتقديم‭ ‬واجب‭ ‬العزاء‭ ‬للشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭.‬

نهض‭ ‬كزار‭ ‬مفزوعاً‭ ‬عند‭ ‬سماعه‭ ‬النبأ‭ ‬وسأل‭ ‬النادل‭ ‬بارتباك‭:‬

‭- ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬توفَّى؟

‭- ‬والدهُ؛‭ ‬يرحمهُ‭ ‬الله‭.‬

أطلق‭ ‬كزار‭ ‬حسرة‭ ‬قصيرة‭ ‬وعاد‭ ‬ليجلس‭ ‬على‭ ‬مقعده،‭ ‬قال‭ ‬بفتور‭:‬

‭- ‬لنشرب‭ ‬قارورة‭ ‬أخرى‭ ‬ونذهب‭ ‬نقدِّم‭ ‬العزاء‭ ‬لأبي‭ ‬بادية‭.‬

كرع‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬الزجاجة‭ ‬جرعة‭ ‬طويلة‭ ‬وقال‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬بأسف‭:‬

‭- ‬حميد‭ ‬غير‭ ‬محظوظ‭ ‬بالأماسي؛‭ ‬أتذكرْ‭ ‬يوم‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬دعوتي‭ ‬لإقامة‭ ‬أمسية‭ ‬لهُ‭ ‬في‭ ‬الديوانية؟‭ ‬وحضر‭ ‬الرجل؛‭ ‬لكني‭ ‬نسيت‭ ‬موعد‭ ‬الأمسية‭ ‬فعاد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬شعره،‭ ‬وظننت‭ ‬أنَّ‭ ‬فعلتي‭ ‬النكراء‭ ‬تلك‭ ‬لن‭ ‬يغفرها‭ ‬لي،‭ ‬لكنه‭ ‬استقبلني‭ ‬بحفاوة‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬ولم‭ ‬يتطرَّق‭ ‬لتلك‭ ‬الأمسية‭ ‬أبداً،‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬سيطردني‭ ‬من‭ ‬الباب‭.‬

شفط‭ ‬جرعة‭ ‬أخرى‭ ‬وأردف‭:‬

‭- ‬واليوم‭ ‬يرحل‭ ‬والده‭ ‬بتوقيت‭ ‬غير‭ ‬مناسب‭ ‬مع‭ ‬أمسية‭ ‬أخرى‭ ‬لهُ؛‭ ‬يا‭ ‬لحظهُ‭ ‬التعيس‭.‬

والواقع‭ ‬أنَّ‭ ‬اتحاد‭ ‬أدباء‭ ‬الحلة‭ ‬برئاسة‭ ‬الشاعر‭ ‬سعد‭ ‬جاسم‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أعدَّ‭ ‬العُدًّة‭ ‬لحلقة‭ ‬دراسية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬للشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬تتناول‭ ‬شعره؛‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬أمسية‭ ‬لساعات‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬قد‭ ‬قوِّضَ‭ ‬الآن‭ ‬مع‭ ‬رحيل‭ ‬أبيه‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭. ‬تركا‭ ‬الحانة‭ ‬واكتريا‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬إلى‭ ‬جامع‭ ‬كبير‭ ‬وسط‭ ‬مدينة‭ ‬الحلة،‭ ‬ولما‭ ‬أصبحا‭ ‬قبالة‭ ‬الجامع‭ ‬داهمتهما‭ ‬الدهشة؛‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الحشود‭ ‬تسير‭ ‬زرافات‭ ‬لتقديم‭ ‬مراسيم‭ ‬العزاء،‭ ‬فيما‭ ‬ازدحمت‭ ‬مركبات‭ ‬حكومية‭ ‬فارهة‭ ‬سوداء‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬المقابل‭ ‬لمكان‭ ‬العزاء،‭ ‬تردَّدا‭ ‬لأول‭ ‬وهلةٍ‭ ‬من‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الجامع،‭ ‬بل‭ ‬إنَّ‭ ‬كزار‭ ‬اقترح‭ ‬على‭ ‬مسامع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭:‬

‭- ‬لنعدْ‭ ‬بأدراجنا؛‭ ‬الوجوه‭ ‬ليستْ‭ ‬وجوهنا‭.‬

غير‭ ‬أنَّ‭ ‬إيماءة‭ ‬أحد‭ ‬أدباء‭ ‬الحلة‭ ‬بيده‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬وقفوا‭ ‬بطابور‭ ‬طويل‭ ‬لاستقبال‭ ‬المعزين؛‭ ‬شجَّعتهما‭ ‬للتقدم‭ ‬بخطوات‭ ‬مرتبكة‭ ‬بين‭ ‬صفيّن‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬حتى‭ ‬ولجا‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬الجامع‭ ‬ليجلسا‭ ‬على‭ ‬أقرب‭ ‬أريكة‭ ‬صادفتهما‭. ‬نبسا‭ ‬بسورة‭ ‬الفاتحة‭ ‬وعيونهم‭ ‬هلعةً‭ ‬تجول‭ ‬على‭ ‬الحاضرين؛‭ ‬حتى‭ ‬أطلَّ‭ ‬الشاعر‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬واضحة‭ ‬مرحِّباً‭ ‬بهما‭:‬

‭- ‬الله‭ ‬بالخير‭.‬

نطقا‭ ‬معاً‭ ‬بتينك‭ ‬الكلمتين‭ ‬العذبتين‭:‬

‭- ‬الله‭ ‬بالخير‭.‬

سرعان‭ ‬ما‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬أنظارهم‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئتْ‭ ‬تستطلع‭ ‬وجوه‭ ‬الحاضرين‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الجامع؛‭ ‬فيما‭ ‬بدأتْ‭ ‬أنفاسهم‭ ‬تضيق؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬شهقات‭ ‬الهواء‭ ‬تفرُّ‭ ‬فزعةً‭ ‬من‭ ‬رئتيهما،‭ ‬وهما‭ ‬يبصران‭ ‬كوكبة‭ ‬من‭ ‬النجوم‭ ‬والتيجان‭ ‬والسيوف‭ ‬والسعف‭ ‬الذهبي‭ ‬تلمعُ‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬الوزراء؛‭ ‬همس‭ ‬كزار‭ ‬بحذر‭:‬

‭- ‬القصر‭ ‬الجمهوري‭ ‬كله‭ ‬هنا؛‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الورطة‭ ‬يا‭ ‬إلهي‭.‬

شربا‭ ‬القهوة‭ ‬المُرَّة‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬لمغادرة‭ ‬المكان‭. ‬كانت‭ ‬قاعة‭ ‬الجامع‭ ‬مليئة‭ ‬بالوزراء‭ ‬يتوسطهم‭ ‬محمد‭ ‬حمزة‭ ‬الزبيدي‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬آن‭ ‬ذاك،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬حاضرا‭ ‬أيضاً،‭ ‬فما‭ ‬عادا‭ ‬يجرؤان‭ ‬على‭ ‬رفع‭ ‬نظريهما‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬القافلة‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يتوشحون‭ ‬بالزيتوني‭ ‬والنياشين‭ ‬الرئاسية‭ ‬الفخمة،‭ ‬فجأةً‭ ‬صاح‭ ‬كزار‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬خدَّام‭ ‬الجامع‭:‬

‭- ‬سجائر‭ ‬رحمة‭ ‬على‭ ‬والديك‭. ‬

لم‭ ‬يتوقع‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أنْ‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬كزار‭ ‬تلك‭ ‬الصيحة‭ ‬أمام‭ ‬رجال‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري‭ ‬فهمس‭ ‬لهُ‭ ‬موبِّخاً‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬وقت‭ ‬سجائر‭ ‬الآن‭ ‬يا‭ ‬كزار‭.‬

‭- ‬ما‭ ‬فرقنا‭ ‬عنهم؛‭ ‬هم‭ ‬جاءوا‭ ‬للعزاء‭ ‬ونحن‭ ‬كذلك‭.‬

بدأ‭ ‬كزار‭ ‬يدخن‭ ‬بمفرده؛‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الكائن‭ ‬الوحيد‭ ‬بين‭ ‬المعزين‭ ‬داخل‭ ‬قاعة‭ ‬الجامع‭ ‬الذي‭ ‬ينفث‭ ‬سحب‭ ‬الدخان‭ ‬أمام‭ ‬حشود‭ ‬الوزراء،‭ ‬وربما‭ ‬وجدها‭ ‬فرصة‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬للتشفِّي‭ ‬بهم‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬كبريائه‭ ‬كشاعر،‭ ‬وإذا‭ ‬بأحد‭ ‬الصبيان‭ ‬المجاذيب‭ ‬يدنو‭ ‬منهما‭ ‬ليستجدي‭ ‬النقود،‭ ‬فنبس‭ ‬كزار‭ ‬ساخراً‭:‬

‭- ‬يا‭ ‬لغبائك؛‭ ‬ألم‭ ‬تجدْ‭ ‬سوانا‭ ‬تتسوَّلُ‭ ‬منهُ؟‭ ‬

وأخرج‭ ‬كزار‭ ‬عملة‭ ‬ورقية‭ ‬بسيطة‭ ‬حرص‭ ‬أنْ‭ ‬يراهُ‭ ‬جميع‭ ‬الوزراء‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬يضعها‭ ‬بيد‭ ‬الصبي‭ ‬المخبول‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

‭- ‬خذها‭ ‬وانصرف؛‭ ‬لا‭ ‬بارك‭ ‬الله‭ ‬فيك‭.‬

الغريب‭ ‬أنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬الغلام‭ ‬المجنون‭ ‬لم‭ ‬يطلب‭ ‬النقود‭ ‬إلاَّ‭ ‬منهما،‭ ‬ربما‭ ‬لخشيته‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬زمرة‭ ‬الوزراء‭ ‬المحترمين‭. ‬أكمل‭ ‬كزار‭ ‬تدخين‭ ‬سيجارته‭ ‬وهتف‭:‬

‭- ‬الفاتحة‭.‬

فبسمل‭ ‬الوزراء‭ ‬وكبار‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ولما‭ ‬أصبحا‭ ‬خارج‭ ‬القاعة؛‭ ‬لمح‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬يقف‭ ‬بأول‭ ‬طابور‭ ‬المستقبلين‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬اليسار‭ ‬فدنا‭ ‬منهُ‭ ‬وصافحهُ‭ ‬وتبادلا‭ ‬قبلات‭ ‬العزاء؛‭ ‬فيما‭ ‬انصرف‭ ‬كزار‭ ‬دون‭ ‬أنْ‭ ‬يلقي‭ ‬تحية‭ ‬العزاء‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬بادية‭ ‬الذي‭ ‬تساءل‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬طيف‭ ‬ابتسامة‭ ‬فاترة‭:‬

‭- ‬ما‭ ‬به‭ ‬كزار؛‭ ‬أراهُ‭ ‬يخرج‭ ‬منزعجاً؟

لقد‭ ‬فاجأَ‭ ‬تصرُّف‭ ‬كزار‭ ‬الغريب‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬أيضاً؛‭ ‬فقال‭ ‬مبرِّراً‭:‬

‭- ‬لم‭ ‬يتمكَّن‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬السلام‭ ‬عليك؛‭ ‬لأنَّهُ‭ ‬حزين‭ ‬ومرتبك‭.‬

تبسَّم‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى‭ ‬وهمس‭ ‬بأذن‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭: ‬

‭- ‬سهرتكما‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬على‭ ‬حسابي؛‭ ‬تجد‭ ‬النقود‭ ‬لدى‭ ‬شكر‭ ‬الصالحي؛‭ ‬تحياتي‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬سلام‭.‬

 


مشاهدات 444
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/05/20 - 4:25 PM
آخر تحديث 2024/06/27 - 5:06 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 351 الشهر 11475 الكلي 9362012
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير