الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نمط الحكم الأنسب للعراق

بواسطة azzaman

مركزية مصر ولا مركزية العراق .. لماذا؟ (5)

نمط الحكم الأنسب للعراق

منقذ داغر

 

أن الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذا التحليل التاريخي لتأثير جغرافيا مصر والعراق على أنماط السلوك السياسي والأجتماعي فيهما،والذي أمتد عبر أربع مقالات سابقة،هي أن من سيطر على النيل أمكنه السيطرة على مصر كلها. وكما قال أحد الفراعنة «من يسيطر على النيل يهب الحياة للناس».فالنيل ليس فقط أقتصاد مصر،وأنما سياستها وأجتماعها ومحور حياتها. في حين أن جغرافيا العراق وطوبوغرافيته يمكنّان أي مجموعة بشرية من الأكتفاء ذاتياً والأستغناء عن المركز. فمن يسيطر على دجلة أو الفرات أو شط العرب مثلاً  فلن يتمكن بالضرورة من السيطرة على العراق. فقد سيطر الأنكليز على البصرة،مثلاً، لأكثر من ثلاث سنوات 71914-191 دون أن يتمكنوا من أحتلال بغداد. وتطلب الأمر أكثر من سنة بعد أحتلالهم  لبغداد  ليحتلوا  الموصل. وعبر تاريخه كان وجود أكثر من دولة أو حاكم على أراضي العراق الحالية أمراً مألوفاً،حتى أنه كانت هناك ولايتَين للعراق(البصرة والكوفة) مقارنة بولاية واحدة لمصر في العهدَين الراشد والأموي. لا بل أنه حتى خلال العهد العباسي الذي كانت فيه بغداد عاصمة العباسيين،ظل العراق مقسماً الى عدة ولايات بعكس مصر التي كانت موحدة. وأذا كان لنا أن نأخذ من التاريخ عبرة فهي أن النمط اللامركزي هو نمط مناسب لطبيعة جغرافيا العراق وثقافته الأجتماعية بعكس مصر التي يبدو أن ثقافتها وجغرافيتها تشجعان أكثر على النمط المركزي.

اهمية الجفرافيا

أن أستعراض نماذج الحكم في العراق يؤشر بوضوح أهمية الجغرافيا المحلية في التأثير على ثقافة العراقيين وتقبلهم لنمط الحكم. أن النماذج التاريخية (الناجحة) في (الحكم) وليس بالضرورة بالسياسة،كانت تجمع في الغالب بين نمط لامركزي(شبيه بالفيدرالي) يعطي للجغرافيا حقها وللثقافة المحلية أهميتها،مع حكومة مركزية قوية قادرة على أدارة الأطراف والأبقاء على وحدة البلاد كما كان حال الحضارات العراقية القديمة(سومر وأكد وآشور)،أو الحضارة الأسلامية الوسيطة. أما نماذج الحكم الفاشلة في حكم العراق عبر التاريخ فقد تراوحت بين لامركزية مفرطة دون مركز قوي،كما كان الحال أبان العهد العثماني،أو مركزية مفرطة دون أعتبار للمحليات وثقافتها ومجتمعاتها،كما كان الحال منذ تأسيس العراق الحديث ولغاية 2003. أما نظام الحكم الحالي في العراق فهو نظام «فرنكشتاني» كما أسميتُه في مقالاتي التي نشرتها هنا عن مصادر القوة والسلطة في العراق الحالي. أنه بحق (خلطة عطار) غير متجانسة أدت الى تسميم جسد السياسة بدلاً من شفائها. أن من أسس لنظام ما بعد الأحتلال أرادهُ لامركزي مفرط في فيدراليته حتى أن الدستور وُضع لينص صراحةً أن للمحليات عُلوية سياسية وقانونية ودستورية على المركز! لكن على الجانب المقابل،فأن الممارسات والسرديات والخطابات السياسية (وتحديداً خارج كوردستان) تبدو نادمة على هذا الدستور الفيدرالي لكنها غير قادرة على تغييره قانونياً،فلجأت الى مخالفته عملياً. وهنا وقعنا في الفرانكشتانية السياسية.فجسد النظام السياسي مصمَم بأنموذج متطرف في مركزيته أو فيدراليته. أما قلب النظام فهو مركزي بخاصة وأنه يعتمد في الدماء التي يضخها في أرجاء النظام على ريع النفط(المصدر الوحيد للأقتصاد). أما عقل النظام فهو متردد وغير واضح ومصاب بالخرف على ما يبدو. فحينما تكون له مصلحة سياسية آنية ،كما يحصل كل مرة عند تشكيل الحكومة،وكما حصل مؤخراً عند عودة مجالس المحافظات، فهو يوافق على الفيدرالية ويبررها ويدافع عنها. لكنه ينقلب عليها ويهاجمها حالما تقتضي المصلحة فعل ذلك،كما حصل عندما ألغى مجالس المحافظات أو حينما يختلف مع الكورد سياسياً. وليت الأمر أقتصر على عدم الأتساق بين عقل النظام وقلبه وجسده،فأطرافه هي الأخرى تعمل لوحدها ودون تنسيق مع أي من أجزاء النظام الأخرى. خذ مثلاً  الدعوات العلنية والمتكررة ل(بصرنة) البصرة و(بغددة) بغداد و(موصَلَة) الموصل!! أن هذا النظام السياسي الفرانكشتاني لم يغفل فقط دروس التاريخ والجغرافيا التي أوضحت هنا سابقاً،بل تجاهل حقائق الأقتصاد والسياسة التي تقتضيها الدولة المعاصرة.

وفي ختام هذه السلسلة يجب التنبيه أن الخبرة التاريخية،والحقيقة الجغرافية ليستا الوحيدتين اللتان يمكن أن تتحكما بالقرار السياسي التنظيمي لأي دولة ومنها العراق.فهناك ظروف جيوسياسية خارجية،أو ظروف أقتصادية آنية،أو ظروف ديموغرافية مستجدة قد تجعل من الأنموذج التاريخي الذي تناولته السلسلة مجرد عِبرة وليست خِبرة.

ريع نفطي

خذ مثلاً الريع النفطي،والذي لم يكن معروفاً في التاريخَين القديم والوسيط. فهل هذا الريع يساعد على المركزية أم اللامركزية في الحكم؟ أن هذا يتطلب نقاش آخر وبحث آخر أيضاً. خذ الطائفية كمثل آخر لم يعرفه أجدادنا السومريون والأكديون والآشوريون وأبتُليت به أجيالنا المعاصرة. فهل الطائفية السياسية التي ضربت أطنابها في العراق تشجع على تبني أنموذج لا مركزي للحكم قد يؤدي لتهديد وحدة العراق؟ وماذا عن الكورد وأحلامهم القومية؟ وماذا عن أيران وتبنيها لولاية الفقيه وتصدير ثورتها وتأثير ذلك على العراق؟ بل ماذا عن ما تركه الأحتلال الأمريكي للعراق من دستور ونظام حكم وعلاقات أقليمية ودولية؟ هذه فقط أمثلة للمؤثرات غير التاريخية ولا الثقافية التي يمكن أن تؤثر في شكل نظام الحكم والسياسة في العراق،ولو كان هناك مجال لأستعرضتُ أمثلةً ومتغيرات أكثر من ذلك. ونفس الحال ينطبق على مصر،فالتاريخ لا يصلح ،في رأيي، كخِبرة بل هو عبرة وليس أكثر من ذلك. صحيح أن من يريد أن يسوس الناس بفاعلية وكفاءة فأن عليه أن يســتفيد من التاريخ،وينتبه للجغرافيا،لكن عليه أيضاً أن يراعي كل الظروف المستجدة الأخرى.

 

 

 


مشاهدات 248
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/06/10 - 1:05 AM
آخر تحديث 2024/06/30 - 2:21 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 401 الشهر 11525 الكلي 9362062
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير