الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مركزية مصر ولا مركزية العراق .. لماذا ؟

بواسطة azzaman

أبن ولايتي مقابل بلدياتي (1)

مركزية مصر ولا مركزية العراق .. لماذا ؟

 منقذ داغر

أتاح لي ولعي بدراسة الثقافات الأجتماعية للبلدان الأطلاع مؤخراً على كثير من المصادر التاريخية التي توثق لحضارتي الرافدين والنيل.وعلى الرغم من التحذير في كتابي الأخير(ثقافة التصلب:منظور جديد لفهم المجتمع العراقي) من خطأ الأعتماد على الجغرافيا كعامل وحيد لتفسير الثقافات الأجتماعية للبلدان،الا أن من الأنصاف القول أن الجغرافيا هي واحدة من أهم عناصر صنع التاريخ والأجتماع البشري حتى أن أبن خلدون(مؤسس علمَي الأجتماع والتاريخ) جعل الجغرافيا أهم محور من محاور نظريته في ما أسماه بالعمران البشري. في هذا المقال سأستعرض تأثير جغرافيا أهم حضارتين عرفهما التاريخ الأنساني،على بناء الدولة الفرعونية والدولة العراقية قبل الميلاد. أن مدرسة النشوء والتطور في علم الأجتماع تؤمن بأن الثقافة الأجتماعية لأي بلد هي ليست نتاج فقط تفاعل حاضره مع بيئته الجغرافية والسياسية والأقتصادية،بل هي نتاج أيضاً الموروثات الثقافية للشعوب عبر التاريخ.

يلجأ بعض كتاب التاريخ وكثير من العراقيين أيضاً الى جلد ذواتهم من خلال الأشارة الى تفرّق العراقيين وتشتتهم فيستعينون بما يُنسب  للأمام علي(ع)،وأبن الزبير،والحجاج الثقفي وسواهم، من أقوال عن العراق والعراقيين بأنهم أهل شقاقٍ ونفاق وفرقة وعدم توحد. وعلى الرغم من أن كثير مما نُقل،ويتم تداوله، من أقوال بهذا الخصوص لا تستند الى مصادر تاريخية رصينة،الا أن العراق شهد على مدار تاريخه القديم والوسيط والحديث كثير من الحروب والأنشقاقات والأنقلابات على الحكم المركزي وقد ثقتها في كتابي أعلاه. على الجانب المقابل نقرأ مثلاً أن عمرو بن العاص قد قال حينما تولى حكم مصر بأن ولايتها «جامعة تعدل الخلافة» بسبب كبر حجمها وكثرة خيراتها وتوحدها.

وفي الوقت الذي لم يكن العراق (برقعته الجغرافية الحالية) موحداً سواء في عصور حضارات وادي الرافدين،أو في العصر الأسلامي،أو حتى في العصر العثماني فأن مصر كانت موحدة تحت حكم مركزي واحد سواءً في عصور الفراعنة أو الأسلام أو العثمانيين.  وفي الوقت الذي ظهرت فيه كثير من الحركات السياسية والعسكرية التي طالبت بأنفصال أجزاء من العراق عن حكم بغداد بعد تأسيس دولة العراق في 1921،لم يتم تحدي سلطة القاهرة المركزية من قبل أي قوى مصرية في التاريخ المعاصر. وحتى في ظل دولة البعث شديدة المركزية والسطوة  في العراق كان يجري دوماً تحدي سلطة بغداد،بل والخروج عليها طيلة الوقت،مما جعل الحروب لا تتوقف في العراق.أما في مصر،فحتى حين كان يجري أنقلاب عسري أو شعبي،فأنه يتم تحدي السلطة  والأنقلاب عليها،بعكس العراق اذي يجري فيه(في كثير من الأحيان) تحدي الدولة والأنقلاب عليها،وليس السلطة فحسب!

يوم وطني

في مصر هناك علَمٌ متفق عليه،ونشيد وطني متفقٌ عليه،ويوم وطني متفقٌ عليه. أما في العراق فليس هناك يوم وطني،ولا نشيد وطني،ولا علم وطني متفق عليه.

وحتى حين جرى أقرار قانون العطل الرسمية مؤخراً من البرلمان العراقي،نجد أعياداً دينية،وعرقية متفق عليها لدى طائفة،ومختلف عليها لدى أخرى،مع خلو تام حتى من عيد واحد جامع شامل لكل العراقيين!! حتى يخيل للمرء أن هناك طاعة فطرية للمركز في الحمض النووي DNA للمصريين  يقابلها كرهٌ شديد للمركزية يسري في عروق العراقيين! أنها مفارقة تدعو حقاً للتأمل.فعلى الرغم من أن البلدَين لهما تاريخ عريق، وثقافات عريقة، ولغة واحدة،وأديان متشابهة، وقوى بشرية نشطة وكبيرة، وكلاهما شكلت الأنهر مصدراً رئيساً للأجتماع والأقتصاد والسياسة! فيهما لكنهما وعلى مدى التاريخ أختلفا في أنظمة حكمهما! فأين يكمن الأختلاف الذي أدى الى شدة المركزية السياسية في مصر،وضعفها في العراق؟ قبل الولوج في تفسير هذه المفارقة،أرجو من الجميع أن يفهموا أن تأشيري لهذه الظاهرة لا يعد أمرأً أيجابياً لهذه الثقافة ولا سلبياً للأخرى. فأنا كما أوضحت عبر كتابي وعبر حلقات «الأخ الأكبر» من مدرسة تؤمن أنه لا توجد ثقافة في العالم أفضل من الأخرى لأن كل ثقافة تنشأ وتتطور تبعاً لتفاعل سكانها مع الظروف التاريخية والجغرافية والأقتصادية والآيكولوجية التي تحيط بهم. بالتالي فأنه يمكن أعادة صياغة السؤال الذي طرحته ليصبح: ما الذي جعل المصريين مطيعين للسلطة المركزية على مدى تاريخهم،في الوقت الذي يتمرد فيه العراقيين العراقيين على سلطتهم المركزية بأستمرار؟ ما الذي يجعل المصري يطلق على من هو من نفس بلدته أو محافظته مصطلح «بلدياتي»،في حين يطلق العراقي عليه مصطلح «أبن ولايتي» وكأن البلدة أو المحافظة هي أمٌ لهما! ما الذي يجعل العراقيين أشدُ مَيلاً لجغرافيتهما الصغرى وليس جغرافيتهما الكبرى؟ ففي مصر لم يجري (على حد علمي) سن أي قانون يمنع المصري من خارج القاهرة أن يتملك فيها بعكس ما كان معمول به في العراق خلال النظام السابق،وينادي البعض بعودته الآن! لم أسمع أو أقرأ في مصر مثلاً أن العمل في الأسكندرية هو لأهل الأسكندرية حصراً كما هي الدعوات عندنا ليكون العمل في البصرة لأهل البصرة،أو في الموصل لأهل الموصل،أو في كوردستان لأهلها فقط!!

أن جزءً مهماً -وليس جميعه- من فهم هذه المفارقة يكمن في كيفية نشوء الدولة وأدوارها،وممارسة السلطة  وآثارها في العراق ومصر. من المعروف أن الجغرافيا تشكل عاملاً حاسماً في نشوء الدول والحضارات. لذا فأن جميع الحضارات القديمة كانت حضارات رسوبية هيدروليكية. بمعنى أنها نشأت على ضفاف الأنهر التي لم تكن فقط مصدراً للسقي،بل كانت بفيضاناتها المستمرة تترك ورائها أراضٍ رسوبية خصبة عندما ينحسر الفيضان.

زراعة سهلة

بذلك كانت الزراعة ممكنة وسهلة ووافرة العطاء على ضفاف دجلة،والفرات،والنيل،وأنهار الصين وفارس والهند. لقد نشأت الحضارة بأنتقال الأنسان من أقتصاد الصيد وألتقاط الثمار من الطبيعة،الى أفتصاد الزراعة.لذا كانت كل الحضارات القديمة حضارات زراعية. من هنا جاءت تسمية حضارة العراق بحضارة وادي الرافدين(دجلة والفرات) وصارت تسمية حضارة مصر القديمة بأنها حضارة وادي النيل. لكن،ما هو الربط بين ذلك وبين نشوء الدول ونظام الحكم المركزي واللامركزي. سيتم أستعراض ذلك تفصيلاً في مقالٍ قادم.


مشاهدات 377
الكاتب  منقذ داغر
أضيف 2024/06/02 - 8:29 PM
آخر تحديث 2024/06/29 - 12:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 297 الشهر 11421 الكلي 9361958
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير