نحن لا نرى من عالم الأطباء إلا القشور ، و نحن ، في هذا ، كمن لا يرى من الشجرة إلا ثمارها و ظلالها ، متجاهلا هذا التكوين العجيب و المعجز ، و الممتد من الجذر و شعيرات الإمتصاص فيه ، و أذرع التثبيت التي تدعم وجود الشجرة و تحميها من أن تقتلعها الرياح و العواصف مرورا بالجذع و صولا إلى الفروع و الأغصان .
هذا التكوين المعجز هو ما يجعل من الطبيب شخصا استثنائيا و مختلفا ، و هو ما يستلزم منا أعادة صياغة لصورة الطبيب في رؤوسنا ، لكي لا يتورط أحدنا بالظلم المركب الذي يقع عليه ، و الذي يصل في كثير من الأحيان إلى الإساءة إليه أو الإعتداء عليه لفظا أو فعلا ، من خلال تهم يتم إطلاقها و تعميمها جزافا .
فقبل أن يبلغ الطبيب مرحلة الدراسة الطبية ، يكون قد أجهد نفسه و أجتهد ليتفوق تفوقا استثنائيا في مراحل دراسته الأولى ، فيحرم نفسه و يحرم عليها كثيرا من المتع التي ترافق تلك الفترة المشاغبة من الحياة , و لا ننسى ما يكلف عائلته من جهد و حرص حتى يتخطاها بالنجاح الذي لا ينافسه فيه سوى أقرانه من المتفوقين …
ثم تأتي سنوات الكلية ، ست سنوات من العذاب و التعذيب ليحصل على شهادة يوصف بها ” طبيب عام ” ليلتحق بعدها طبيبا مقيما في مستشفى ، تحت التدريب ، و تحت مراقبة صارمة من الأطباء ذوي الإختصاص ، ثم يتدرج لمدة لا تقل عن سنة في اطراف المدن والقرى والمناطق النائية، ويعود بعدها لفترة تحديد الاختصاص والتدريب مرة اخرى ضمن الاختصاص الذي اختاره لمدة لا تقل عن سنة قبل ان يدخل معترك الدراسة من جديد بغية الحصول على شهادة البورد ضمن الاختصاص الذي اختاره ، و هي شهادة تعادل الدكتوراه في التخصصات الأخرى ، تمنحه بعد ذلك التخصص في فرع معين من الطب ، ليصبح بعد ذلك طبيبا اختصاصيا و يبدأ من جديد متدرجا من المناطق النائية واطراف المدن لمدة لا تقل عن سنتين قبل ان يحق له العودة الى مستشفيات المدن المركزية او ان يقوم بدخول دراسة جديدة تسمى التخصص الدقيق في جزئية واحدة ضمن حقل الاختصاص نفسه، ثم بعد 10 اعوام من نيل الاختصاص وبعد نشر العديد من البحوث يصبح استشاريا و يترتب على هذا اللقب ما يترتب عليه من مسؤوليات اضافية تتعلق بالاشراف و التدريس و النشاطات العلمية الكثيرة و الملزمة. و بين هذه و تلك مئات المصطلحات الطبية المتقاربة و المتداخلة ، و مثلها أسماء الأدوية بتفرعاتها و حدود تأثيرها و تفرعاتها ، فلكل دواء تفرعات و لكل منها مصطلح تفرضه الشركات المصنعة لها .
رحلة الاختصاص تلك ، رحلة قاسية يكون دوامه فيها أطول و أصعب و أشد خطورة و مسؤولية من دوام أي موظف آخر ، فهو تحت الضغط دائما ، لأنه يعي و يدرك أن أي خطأ سيكلفه الكثير ..
ثم تأتي ساعات الدوام في عيادته ، ليختلط ببؤسنا و أمراضنا و أوجاعنا و قلة صبرنا ، و كل هذا يحتاج إلى أعصاب من حديد ، أما نحن فنلومه على أنه لم يعطنا إلا القليل من الوقت ، و لم ينصت إلى مطولات الشكوى جيدا ، و أخيرا نشكو من خطه الرديء الذي لا نستطيع فك رموزه ، دون أن نسأل أنفسنا ما شأننا نحن المرضى ما دام الصيادلة يفعلون ذلك ؟
الأطباء ليسوا مثلنا ، و لا ينبغي لأحد أن يرى في نفسه كفوا لهم ، فقد كانت رحلتنا ، نحن أصحاب التخصصات الأخرى ، مجهدة بعض الجهد، للحصول على الدكتوراه ، و لكنها ممتعة ، أما عملنا في الجامعات ، فيكاد أن يكون نزهة قياسا بالأعمال الشاقة و الخطيرة بل و المقرفة غالبا التي يقوم بها هذا الطبيب أو ذاك ، و يكفي أن تنظر إلى جرح لدقيقة لتفزع ، فكيف بمن ينظر في جوف مفتوح لساعات طويلة ؟
فهل من العقل أن نسيء إلى من نحن سنظل بحاجة إليهم ؟
و هل من الإنصاف أن نطالبهم أن يقدموا خدماتهم مجانا ، و لا قيمة لشيء لا تدفع أنت أو أنا ما يستحق أن يدفع له ، و في الحقيقة أننا ندفع أقل من قيمته بكثير ، فتصليح نقطة كهرباء لا يستغرق سوى خمس دقائق يطالبك الكهربائي بمبلغ ٢٥ ألف و ربما بعد جهد سيتنازل عن جزء من هذا المبلغ …
إن فهم عالم الأطباء و هو عالم لا يحسدون عليه ، قد يمنحنا فرصة في تصحيح سوء الفهم و توجيه نقدنا و تبرمنا إلى الجهات التي ينبغي علينا أن نلومها ، و أعني بذلك إهمال المؤسسات الصحية ، بدءا بالبنى التحتية لها ، و انتهاءا بتجهيزها بما تحتاج إليه من أجهزة و معدات ،و تقديم الدعم لها ، و قبل ذلك علينا أن نلوم أنفسنا و نظامنا الغذائي الذي حول مجتمعنا إلى مجتمع مريض بإمتياز.
سأقول شكرا لكل طبيب وهبني بعضا من وقته ، و أدرك انه وقت مستقطع من ذهب الأيام ، و من منجم الجد و الجهد و سهر الليالي .
شاعر و أكاديمي متقاعد