الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في سيكولوجية الأدباء والشعراء

بواسطة azzaman

قراءة في سيكولوجية الأدباء والشعراء

صافي العمّال

 

  ان الرؤية المستقبلية لعلم النفس السردي تتمثل في التوجهات المعاصرة في علم النفس وعلى وجه الخصوص منها (علم النفس الإيجابي) الذي تتقارب توجهاته مع السرد بوصفه عنصراً مركزياً ايجابياً في علم النفس فالسرد يحتوي على تركيبات نفسية كثيرة مثل الحالة المزاجية، والانفعالية، والبعد الفكري والايديولوجي، فضلاً عن طبيعة المواقف وسمات الشخصية والأدوار التي يعيشها الفرد، ويعد ذلك من متطلبات دراسة الشخصية الإنسانية، كما اصبح علم النفس يغوص كثيراً في تفسير بعض المفاهيم التي التصقت بالأدباء والشعراء، منها (الغموض، والجنون، والعُصاب، والنرجسية، العُزلة، والاختلاف او المخالفة، الابداع) وغيرها الكثير!! فالغموض كثيرا ما يكتنف شخصية الاديب، او الشاعر او الفنان وهناك من ذهب بعيدا ليفسرها من خلال وجود ما يسمى «شيطان الادب « ويتجلى رأيهم هذا في الشيطان المزعوم الذي يوحي للشاعر مثلا بشعره.

خلل عقلي

وهناك من كان يرى ان الشاعر « مجنون» وهذا لا يعني انه يعاني من خلل عقلي بقدر ما يعني ان له قدرة فذة في خلق الصورة والنص لا يمتلكها سائر البشر، ثم قيل لاحقاً ان الشاعر او حتى الاديب قد يصاب فعلياً بجنون حقيقي، منطلقين من ان استعماله الكبير للخيال، الذي يعد ضرباً من الجنون كما يدعون!!

    لوحظ كذلك ان هناك ممن يشاركون مشاركة فعالة في الادب او الفن، يتقبلون برضا وبحماس فكرة ان الفنان والاديب مريض عقلياً، ويجعلون من مرضه متلازمة مع قدرته على التعبير عن آرائه بصدق قوة وعمق!! وهناك من يرى ان الاديب او الشاعر لم يكن كذلك اديباً او شاعراً الا لكونه فرداً عُصابياً، وبالنتيجة فإن محتوى نتاجه سيكون عصابياً ايضاً، وبمعنى ادق ان هذا النتاج الادبي او الفني لا يرتبط بالواقع ارتباطاً حقيقياً وصحيحاً، الا انه يحتوي بكل تأكيد على مواقف وجدانية ومشاعر حقيقية تمتلئ بالمعنى!

     عندما نتحدث عن العصاب والابداع، فيمكننا القول إذا ما سلمنا بوجود علاقة سببية بين مرض الاديب نفسياً ومقدرته الادبية؛ والتسليم بعُصابية الاديب/ الشاعر! فالسؤال هنا هل يمكن ان يكون عصابه سبباً في قدرته على الابداع الادبي؟ وهذا له تأسيس على فكرة قديمة تقول ان المقدرة والابداع لا تكون الا بالمعاناة، فالآلام التي يواجهها الاديب او الشاعر يمكن ان يستخدم فيها ميكانزيم الازاحة، يستمتع بالألم من خلال نشوة الوحي الذي يتيح له الابداع، بمعنى ان المعاناة كانت السبيل الى الابداع!  وفق المعادلة معادلة (الم – وحي  -  نتاج/ لذة)، وقد اثبتت الدراسات الاكلينيكية ان بعض العصابيون لديهم القدرة على ان يروا أجزاء معينة من الواقع بقوة وتميز أكثر من غيرهم من الاسوياء، وكذلك على الفهم أكثر من العاديين، والأكثر احتمالا ان التعبير عن المعنى لدى العصابي أكثر كثافة من تعبير الشخص العادي، فالأعراض او ما يقع على حدود المرض النفسي او العقلي يكون أكثر ظهورا عند العباقرة من الناس العاديين، واذا افترضنا ان الادباء والشعراء من العباقرة فقد يصح هذا الكلام. الا ان فرويد يقول: ان هنالك فرقاً بين الاديب والعصابي، اذ يستطيع الاديب ان يجد له مخرجاً من عالم الخيال، ويعود ليضرب الواقع بقدم ثابتة! فالشاعر مثلا يحلم وهو في حالة يقظه، فلا يتسلط عليه الموضوع وانما هو مسيطر عليه. فالشاعر والاديب والفنان يتحكم في خياله، اما الشخص العصابي فإن خياله يتسلط عليه ويتحكم فيه! كما ان عبقرية الاديب تتجلى في قدرته على إدراك الأشياء وتصويرها والاحساس بها بشكل مغاير ومختلف عن الاخرين. وهذا يقودنا الى استنتاج مفاده: ان الاديب والشاعر حاله كحال الناس الاخرين فقد يعاني من اضطراب نفسي، ويتألم ويعاني لمختلف الأسباب ولكنه ليس مجنوناً! حتى عندما يكون عصابياً لا يكون لعصابه علاقة حتمية في قدرته على الابداع، لأنه حين ُيبدع يكون في حالة جيدة من الصحة النفسية واليقظة النفسية والذهنية الواعية.

اراء العلماء

 ويمكن والاستشهاد هنا بآراء أهم علماء علم النفس المعرفي السويسري (جان بياجيه) الذي اوجد مفهومين يتحكمان بالأبنية المعرفية التي ينشئها الفرد، وهما: (التمثل) (والمواءمة) فالإنسان العادي عندما يتعامل مع المثيرات التي يواجهها يحاول التعرف عليها وخزنها ضمن البنى المعرفية التي يمتلكها!! اما الاديب او الشاعر فانه يتمثلها، ثم يوائمها مع ما موجود ليه من خبرات في ابنيته ومخططاته المعرفية، وينتج منها بُنية معرفية جديدة متفردة وتختلف عن الأشخاص الاسوياء الاخرين.

اما نرجسية الاديب او الشاعر فقد تتداخل فيها العديد من الأسئلة، منها: هل صحيح ان الاديب والشاعر مفرط في حب ذاته وفي تقديره لها واعتزازه بها؟ او هل ان الافراط في حب الذات يمكن تفسيره لكونه اديباً او شاعراً؟ ام انها نرجسية اعتيادية يتميز بها الانسان؟ ام هي نرجسية خاصة بالأدباء والشعراء؟

ففي الشعر مثلا لابد من التفريق بين الشعر وحلم اليقظة؟ فصاحب حلم اليقظة غالبا ما يتخذ من نفسه بطلاً، فيما لا يفعل الشاعر ذلك ابداً! حتى عندما يتكلم عن نفسه، وحالته، وخصائصه، او حياته الخاصة، وشخصيته... فانه يصنع ذلك بمعنى يختلف تماماً عن حُلم اليقظة! بمعنى ان رغبته لا تقوده الى تمجيد ذاته بل الى تقصيها والتعرف عليها!! ونجد أيضا ان الاديب/ الشاعر يضحي بالمتعة الناشئة من النظر الى نفسه في مرآة مُجَمَّلة، بمعنى (النرجسية) عند الانتقال من حلم اليقظة الى العمل الادبي، وهي الضريبة التي لابد منها لكي يخرج الاديب من العزلة الى ائتلاف جديد مع الناس! هذا يقودنا الى القول ان الاديب يؤدي وظيفة اجتماعية في النهاية لا تتحقق الا باستقبال الجمهور لما أبدع، فالإبداع لا يتحقق مالم يكن هناك من يتلقى العمل ويتفاعل معه ويستذوقه. فالنرجسية متحولة عند الاديب، من خلال دأبه الدائم في البحث عن الجمال والتميز فتنتقل عندها من الاديب الى العمل الادبي، وتُعد هذه الحالة اهم من الزهو النرجسي الفارغ او الاعتداد بالنفس، أي ان الاديب يفتش دائماً عن الجمال ويتمثله في ابداعه! ويستمد قوته وتميزه من النتاج المبدع، وبالتالي يضع قدماً في تحقيق مفهوم (الخلود) المنشود! هذا الخلود الذي يكون فارغاً عديم المعنى ولا أهمية او وجود له، الا بوجود نتاج مبدع ومميز يدفع الناس في كل زمان ومكان لتمثل هذا الابداع والاستمتاع به!كما ان (نرجسية) الاديب والشاعر لا تستمد من اعجابه الخاص بذاته نتيجة حلم يقظه هو بطله وفارسه، بل تستمد من روعه عمله وابداعه! هذا الذي يجعلنا نفسر لماذا يُحِبُ الاديب دائماً (العزلة) وان يتوارى خلف العمل الادبي، فهو لا يريدنا ان نراه هو وانما يريدنا ان نرى ابداعه ونتاجه المبدع! ومن جانب اخر يمكننا القول ان هنالك فرقاً بائناً بين نرجسية السياسي/ الزعيم ونرجسية الاديب والشاعر، فالأول يريد ان يسيطر على عواطف اتباعه حتى لو كانت ضحلة او زائفة لتحقيق اغراضه وإنجاز خططه وتعظيم شخصه، والاديب او الشاعر او الفنان يشعر ان اعماله هي التي تجعله زعيما فهو يهتم بتلك العواطف العميقة الاصيلة، الا انه لا يطمح باستغلالها ابعد من ذلك، لكنه حين يسعى لخدمة اتجاهاً محدداً وهو في اغلب الأحيان (غرضاً سياسياً) ويكون على وعي بالفائدة البعيدة لعواطف الناس التي اثارها، فانه يكون عندها زعيماً وليس كاتباً او اديباً أو شاعراً، وغالباً ما تفقد القيمة الاديبة لعمله او فنه، وعليه فإن الأديب والشاعر ليس نرجسياً بالمعنى المتعارف عليه، لأنه لا يُغرم بذاته؛ ولا يصنع من نفسه بطلاً كما يصنع الحالم باليقظة؛ وانه يختلف عن الزعيم وان اتفق معه في الرغبة بكسب الجمهور اليه، فالزعيم يسعى ان يستغل عواطف جمهوره لغرض شخصي! الا ان نرجسية الاديب/الشاعر هي نرجسية متحولة محورة، او لنقل انها نرجسية ملغاة يعوضهُ عنها العمل الادبي المبدع، فتكون نرجسيته أرحب واوسع!

ومن جانب آخر اهتم علم النفس في محاولة وضع خصائص وسمات للعباقرة والمبدعين والادباء والشعراء، وكان السؤال الجوهري يتمثل في: هل يمكن قياس القدرة الأدبية من وجهة نظر علم النفس؟ بطبيعة الحال ان الجواب هو كلا! لأسباب منها ان هؤلاء الادباء العباقرة لديهم القدرة على التحايل والزوغان من الاختبارات النفسية، إذا قبلوا بالأساس من الخضوع اليها! لأنهم نادراً ما يضعون أنفسهم محل اختبار وفحص! كما ان اغلب الاختبارات النفسية هي اختبارات ذكاء وقياس القدرات العقلية المعرفية، والسمات الشخصية لكنها بطبيعة الحال لا تهدينا الى الإشارات الجمالية في نتاج الاديب او الكاتب! فهي تعرفنا بذكائه، وبعض القدرات العقلية والمعرفية فقط! الا ان الطريقة الوحيدة للحكم على الاديب او الشاعر هي تحليل محتوى النتاج وتتبع السيرة الشخصية واليوميات والمؤلفات والخطابات.

عوامل رئيسة

 وهذه قد توكل الى جمهور واعٍ او الى مختصين على مستوى عالٍ في مجال عمل الاديب او الشاعر! فخلال تحليل قدرات عدد منهم ودراسة سيرهم ونتاجاتهم، تم تحديد عدد من العوامل الرئيسة، والتي تتمثل بوجود الموهبة؛ والقدرة على بذل النشاط والاستمرار بالعمل؛ والتمتع بالذكاء الجمالي. والقدرة على الخيال الابتكاري، والقدرة على تنظيم الاحساسات الحية في انتاج جمالي، فضلاً عن القدرة على الحكم الجمالي، التي تعني إدراك الوحدة في التنظيم وهي قدرة داخلية وليست قدرة معيارية خارجية.

 أكاديمي وكاتب

 


مشاهدات 1088
الكاتب صافي العمّال
أضيف 2024/05/26 - 5:50 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 12:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 295 الشهر 11419 الكلي 9361956
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير