الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
‭ ‬الثنائية‭ ‬الوطنية

بواسطة azzaman

‭ ‬الثنائية‭ ‬الوطنية

محمد زكي إبراهيم

 

‭  ‬ربما‭ ‬سيأتي‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬ينضوي‭ ‬فيه‭ ‬عموم‭ ‬العراقيين‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬حزبين‭ ‬كبيرين‭ ‬اثنين،‭ ‬يتبادلان‭ ‬فيها‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تنزوي‭ ‬الجماعات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أتباعاً‭ ‬كثيرين،‭ ‬في‭ ‬الظل‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬سينقسم‭ ‬إلى‭ ‬قسمين،‭ ‬يوشك‭ ‬ما‭ ‬عداهما‭ ‬على‭ ‬الزوال‭.‬

‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬ليست‭ ‬غريبة‭ ‬ولا‭ ‬شاذة،‭ ‬فقد‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كان‭ ‬يحكمه‭ ‬فيه‭ ‬حزب‭ ‬واحد،‭ ‬لا‭ ‬يتقيد‭ ‬بنظام‭ ‬أو‭ ‬عرف‭ ‬أو‭ ‬دستور‭  ‬يسن‭ ‬القوانين‭ ‬دون‭ ‬مشورة‭ ‬أحد،‭ ‬فينقاد‭ ‬إليه‭ ‬الناس،‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬اعتراض‭ ‬أو‭ ‬مساءلة‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬حكم‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬هذا‭ ‬تعددية‭ ‬واضحة،‭ ‬تنازع‭ ‬فيها‭ ‬أربعة‭ ‬أو‭ ‬خمسة‭ ‬أحزاب‭ ‬كبرى‭ ‬متشابهة،‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬هذا‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬آخر،‭ ‬لم‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بممارسة‭ ‬السياسة‭! ‬أي‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬تطورت‭ ‬بمرور‭ ‬السنين،‭ ‬وتعاقب‭ ‬الأزمان،‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬الحزب،‭ ‬أو‭ ‬بتعبير‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬دقة،‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬الفرد،‭ ‬ودعي‭ ‬الجميع‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬العرس‭ ‬الديمقراطي‭ ‬هذا‭.‬

وهكذا،‭ ‬فإن‭ ‬اختزال‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬بحزبين‭ ‬اثنين،‭ ‬سيحدث‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬وسيكون‭ ‬بإمكان‭ ‬هذين‭ ‬الحزبين‭ ‬أن‭ ‬يغيرا‭ ‬قناعاتهما،‭ ‬أو‭ ‬نظرياتهما‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬دون‭ ‬جلبة،‭ ‬فما‭ ‬تصر‭ ‬عليه‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أهداف،‭ ‬وما‭ ‬ترسمه‭ ‬من‭ ‬برامج،‭ ‬قابل‭ ‬للتغيير‭ ‬بحسب‭ ‬الظروف،‭ ‬فالحزب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الأميركي‭ ‬مثلاً،‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬افريقية،‭ ‬وحكم‭ ‬به‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ثماني‭ ‬حجج،‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬كان‭ ‬داعماً‭ ‬لتجارة‭ ‬العبيد،‭ ‬ومدافعاً‭ ‬عن‭ ‬الرق،‭ ‬وحامياً‭ ‬لمؤسسة‭ ‬العبودية‭ ‬قبل‭ ‬نشوب‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬عام‭ ‬1862،‭ ‬لكنه‭ ‬تبنى‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬فرانكلين‭ ‬روزفلت‭ ‬عام‭ ‬1932‭ ‬أفكاراً‭ ‬تقدمية،‭ ‬فناصر‭ ‬نقابات‭ ‬العمال،‭ ‬وعارض‭ ‬تدخل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬تبنى‭ ‬حركة‭ ‬الحقوق‭ ‬المدنية،‭ ‬وبات‭ ‬يعرف‭ ‬أحياناً‭ ‬كثيرة‭ ‬بالحزب‭ ‬الليبرالي‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬يتذرع‭ ‬البعض‭ ‬باستحالة‭ ‬حصر‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬بحزبين‭ ‬اثنين،‭ ‬بوجود‭ ‬مكونات‭ ‬ثلاث‭ ‬يتوق‭ ‬بعضها‭ ‬للانعزال‭ ‬عن‭ ‬سواه،‭ ‬ومذهبين‭ ‬إسلاميين‭ ‬توارثا‭ ‬الخلافات‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬طويلة،‭ ‬وقوميتين‭ ‬تبادلتا‭ ‬العداء‭ ‬زمناً‭ ‬ليس‭ ‬باليسير،

‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المكونات‭ ‬أجنحة‭ ‬ومجموعات‭ ‬متنافرة‭ ‬كثيرة،‭ ‬وينسى‭ ‬هذا‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬بلداناً‭ ‬مثل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والهند‭ ‬لديهما‭ ‬من‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب‭ ‬والقوميات‭ ‬والثقافات‭ ‬الكثير،‭ ‬شهد‭ ‬بعضها‭ ‬صراعات‭ ‬دموية‭ ‬وعرقية،‭ ‬لكنه‭ ‬تخطى‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الإعجاب‭.‬

‭ ‬وطوال‭ ‬عمر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لم‭ ‬يتول‭ ‬الرئاسة‭ ‬سوى‭ ‬رجل‭ ‬كاثوليكي‭ ‬واحد،‭ ‬وحتى‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ (‬جون‭ ‬كنيدي‭) ‬لم‭ ‬يهنأ‭ ‬بمنصبه‭ ‬طويلاً،‭ ‬إذ‭ ‬اغتيل‭ ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬توليه‭ ‬الحكم‭ (‬1963‭)‬،‭ ‬وقتل‭ ‬شقيقه‭ ‬الأصغر‭ ‬روبرت‭ ‬كندي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات،‭ ‬وكان‭ ‬مرشحاً‭ ‬ساخناً‭ ‬للحزب‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬البروتستانت‭ ‬أطبقوا‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬منذ‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬ولم‭ ‬يسمحوا‭ ‬لغيرهم‭ ‬بالاقتراب‭ ‬من‭ ‬المنصب،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬عمليات‭ ‬الاغتيال‭ ‬جرى‭ ‬تأويلها‭ ‬بحجج‭ ‬وأسباب‭ ‬مختلفة‭.‬

‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬انقسام‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬والشرقية‭ ‬إلى‭ ‬حزبين‭ ‬رئيسيين‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬اقتصادية‭ ‬محضة،‭ ‬رغم‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬التناقضات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬لكن‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬كان‭ ‬عاملاً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الانقسام،‭ ‬فرؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬الكبيرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬الرأي‭ ‬العام،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تدير‭ ‬العمليات‭ ‬الانتخابية،‭ ‬أما‭ ‬الانتماءات‭ ‬الطائفية‭ ‬والعرقية‭ ‬فهي‭ ‬تحتل‭ ‬مرتبة‭ ‬ثانوية‭.‬

‭ ‬ولذلك،‭ ‬فإن‭ ‬التنمية‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬إليها‭ ‬العراق‭ ‬ولو‭ ‬ببطء‭ ‬شديد،‭ ‬ستكون‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬تقليل‭ ‬حدة‭ ‬الخلافات،‭ ‬وجمع‭ ‬الكلمة‭ ‬ووحدة‭ ‬الصف،‭ ‬وهي‭ ‬الكفيلة‭ ‬بإحداث‭ ‬تغيير‭ ‬هائل‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬والأفكار‭.‬

‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الخيار‭ ‬الوحيد‭ ‬للعراقيين‭. ‬فبناء‭ ‬بلد‭ ‬ذي‭ ‬موارد‭ ‬كافية،‭ ‬سيكون‭ ‬مقدمة‭ ‬لإذابة‭ ‬الفوارق‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وتذليل‭ ‬العقبات‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬نهضة‭ ‬اقتصادية‭ ‬كبرى،‭ ‬واستقرار‭ ‬مجتمعي‭ ‬كامل‭.‬


مشاهدات 956
الكاتب محمد زكي إبراهيم
أضيف 2024/05/15 - 5:31 PM
آخر تحديث 2024/11/21 - 11:25 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 134 الشهر 9605 الكلي 10052749
الوقت الآن
السبت 2024/11/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير