ربما سيأتي اليوم الذي ينضوي فيه عموم العراقيين تحت مظلة حزبين كبيرين اثنين، يتبادلان فيها السلطة في هدوء، في ما تنزوي الجماعات الصغيرة، التي لا تملك أتباعاً كثيرين، في الظل. أي أن الرأي العام سينقسم إلى قسمين، يوشك ما عداهما على الزوال.
مثل هذه الحال ليست غريبة ولا شاذة، فقد أتى على العراق حين من الدهر كان يحكمه فيه حزب واحد، لا يتقيد بنظام أو عرف أو دستور يسن القوانين دون مشورة أحد، فينقاد إليه الناس، بغير ما اعتراض أو مساءلة.
وقد سبق حكم الحزب الواحد هذا تعددية واضحة، تنازع فيها أربعة أو خمسة أحزاب كبرى متشابهة، على السلطة، هذا عدا عن عدد آخر، لم يسمح له بممارسة السياسة! أي أن هذه الحال تطورت بمرور السنين، وتعاقب الأزمان، إلى حكم الحزب، أو بتعبير آخر أكثر دقة، إلى حكم الفرد، ودعي الجميع للمشاركة في العرس الديمقراطي هذا.
وهكذا، فإن اختزال الحياة السياسية في العراق بحزبين اثنين، سيحدث لا محالة في يوم من الأيام، وسيكون بإمكان هذين الحزبين أن يغيرا قناعاتهما، أو نظرياتهما بمرور الوقت، دون جلبة، فما تصر عليه الأحزاب اليوم من أهداف، وما ترسمه من برامج، قابل للتغيير بحسب الظروف، فالحزب الديمقراطي الأميركي مثلاً، الذي قاده قبل سنوات رجل من أصول افريقية، وحكم به الولايات المتحدة ثماني حجج، هذا الحزب كان داعماً لتجارة العبيد، ومدافعاً عن الرق، وحامياً لمؤسسة العبودية قبل نشوب الحرب الأهلية عام 1862، لكنه تبنى في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1932 أفكاراً تقدمية، فناصر نقابات العمال، وعارض تدخل الدولة في الاقتصاد، بل إنه في ما بعد تبنى حركة الحقوق المدنية، وبات يعرف أحياناً كثيرة بالحزب الليبرالي.
وقد يتذرع البعض باستحالة حصر العمل السياسي في العراق بحزبين اثنين، بوجود مكونات ثلاث يتوق بعضها للانعزال عن سواه، ومذهبين إسلاميين توارثا الخلافات منذ قرون طويلة، وقوميتين تبادلتا العداء زمناً ليس باليسير،
وفي هذه المكونات أجنحة ومجموعات متنافرة كثيرة، وينسى هذا البعض أن بلداناً مثل الولايات المتحدة والهند لديهما من الأديان والمذاهب والقوميات والثقافات الكثير، شهد بعضها صراعات دموية وعرقية، لكنه تخطى كل ذلك بشكل يبعث على الإعجاب.
وطوال عمر الولايات المتحدة لم يتول الرئاسة سوى رجل كاثوليكي واحد، وحتى هذا الرجل (جون كنيدي) لم يهنأ بمنصبه طويلاً، إذ اغتيل بعد أقل من ثلاثة أعوام من توليه الحكم (1963)، وقتل شقيقه الأصغر روبرت كندي بعد ذلك بأربع سنوات، وكان مرشحاً ساخناً للحزب الديمقراطي، أي أن البروتستانت أطبقوا على السلطة منذ تأسيس الدولة حتى يومنا هذا، ولم يسمحوا لغيرهم بالاقتراب من المنصب، رغم أن عمليات الاغتيال جرى تأويلها بحجج وأسباب مختلفة.
والحقيقة أن انقسام المجتمعات الغربية والشرقية إلى حزبين رئيسيين يعود في الأصل إلى أسباب اقتصادية محضة، رغم وجود بعض التناقضات الاجتماعية، لكن الاختلاف في السياسات الاقتصادية كان عاملاً حاسماً في هذا الانقسام، فرؤوس الأموال الكبيرة هي التي تهيمن على الرأي العام، وهي التي تدير العمليات الانتخابية، أما الانتماءات الطائفية والعرقية فهي تحتل مرتبة ثانوية.
ولذلك، فإن التنمية التي يسعى إليها العراق ولو ببطء شديد، ستكون هي السبب الرئيس في تقليل حدة الخلافات، وجمع الكلمة ووحدة الصف، وهي الكفيلة بإحداث تغيير هائل في العقول والأفكار.
ويبدو أن هذا هو الخيار الوحيد للعراقيين. فبناء بلد ذي موارد كافية، سيكون مقدمة لإذابة الفوارق الاجتماعية والثقافية، وتذليل العقبات التي تحول دون نهضة اقتصادية كبرى، واستقرار مجتمعي كامل.