محاولة في تأويل نص الحكاية السردية في رواية أمطار متأخرة
محمود خيون
لم اشأ ان اكون أول من يكتب عن رواية( أمطار متأخرة ) ، لأنني من الذين يقرأون لعلي خيون بأعجاب وبخاصة روايته( بلقيس والهدهد ) ذائعة الصيت، بيد أن شروعي في قراءة الصفحات الأولى من هذه الرواية، جعلني انهمك في تأويل نصها الحافل بالدلالات العميقة التي تقودك عبر الحديث عن مصير عائلة شعلان الحاجم وزوجته مكحولة وأولاده، إلى عالمنا الزاخر بالمتناقضات، فيأخذك الكاتب في خيال مبدع وأسلوب متقن ليضعك بين الوهم الجميل والحقيقة القاسية،او بين الواقع الضيق والخيال الممتد إلى عذابات البشر واحلامهم في بيئة صاخبة تعج بالساعين إلى الخلاص من وطاة الضغوط الإجتماعية وتسلط الخرافة والجهل والتخلف في عقود ماضية من التأريخ المعاصر.
يقوم بناء الرواية على إحدى وثلاثين حكاية، تتداخل على نحو دائري كما في بناء ألف ليلة وليلة،لتذكرك بأن تلك الالغاز والأفكار الغريبة إنما تدور في عقول كثير من الناس، وقد تكون اشد وقعا من الحقيقة عندما تكون قاسية وواقعة تتجسد فيها حكاية من تلك الحكايات،فتتصاعد وتترامى إلى آفاق بعيدة، تصل بها إلى عالم الأسطورة الفائق التخيل، والتصور،والخلق، والإبداع في بناء من الوهم والخيال الذي يلتقي في وجهات عديدة، مع الواقع المعاش، أو يكون هو جدلية الواقع والخيال معا..تتجلى تلك الوقائع في كثير من الأساطير، ومنها ما تجسد في الأساطير المعروفة، الرومانية، والاغريقية، والحكاية المشهورة عن الرواة العرب، والتي تسمى بالايام او الخرافات او الأساطير، وما حدث في الأمس البعيد من مغامرات كان لها ابطالها وشخوصها الذين يتحدث عنهم( الحكواتي ) في الحي أو القرية أو حتى في بيوتات الفقراء في الأحياء، داخل المدينة أو القرية..وكان الروائي علي خيون قد أشار لنا في حكاية الملك الذي مرضت إحدى بناته، فأشترط لمن يشافيها، ان تكون من نصيبه، وتكون له حصة من المال والجاه لديه..والروائي إذ يطرح هذا النص السردي ومثيلاته، إنما يعبر عن اشكاليات الواقع في العقود القديمة، ويقدمها بأختيار الشخصيات المهمشة بعيدا عن الصيغ الجاهزة أو المباشرة، حيث حيث كانت حواراتها ترتقي إلى مستوى الخيال والحلم والاسطورة، مستعينا بالموروث الشعبي والانساني لتحفيز ذلك الخزين في ذاكرة المتلقي، فيكون حاضرا في عمق الحكاية السردية، ويسهم في صياغتها وإعادة تشكيلها على وفق معطيات تجربته كمتلق للأحداث والحكايات، ومشاركا في إنتاجها واعادتها في صيغ جديدة ..
حكاية الحب
اسوق ذلك وأنا أكمل قراءة رواية ( أمطار متأخرة ) الذي إعتمد فيها الكاتب على مجموعة حكايات تبدأ بحكاية( الحب ) وتنتهي بحكاية( العلم والجهل ) وهي تتحدث جميعها عن علاقات إنسانية ومواقف تثير الدهشة، ويتخللها عنصرا المفاجأة والغرابة، مصحوبة بخيال واسع يمتلكه الكاتب بكل إتقان، وحرفية ومهنية عالية في الخلق والابتكار والتنوع،في نوعية الحدث ومفارقاته..ولعل ما يميزها هو تناولها لعالم القرية العراقية بتفاصيل دقيقة ومحسوبة حتى تصل بالقاريء الاعتيادي إلى حد الاندماج مع الأحداث التي تغلفها الأحداث والقصص المروية فيصبح القاريء مشاركا وشاهدا عليها من قريب أو بعيد أو عن طريق الإستماع للحكاية المروية حتى وان كانت تحمل في طياتها الوهم الجميل والحقيقة القاسية او بين الخيال والحلم..ففي بعض الأحيان، نجد ان الحقيقة والشك ينبعان من محض الخيال عندما يكون أقرب إلى الحقيقة أو ان الأشخاص الذين يمثلون هذا الواقع المقروء،وهذا ما تجسد في قصة( حكاية العودة) على سبيل المثال، عندما ملأت الفرحة جوانح شعلان بهجة وسرورا وهو يستنشق هواء الريف الذي يحب ،بعد وصوله إلى قرية ( ام الخير) حين احس بروائح طقس أواخر الخريف المعتدل تملأ أنفه.. ألقى نظرة حزينة إلى بيته القديم الذي هجره وابقاه مغلقا ولم يبعه، واستبدت به رغبة عارمة ليبصر تنور مكحولة لكنه ارتد متجنبا الألم ورفع رأسه بثبات وقال لنفسه( كل ابن آدم معرض للخطأ وقد أخطأت ولكني أشعر أنني نضجت إنسانا وعاشقا وزوجا ) ...ان عملية تحديث النص السردي الدلالي في أغلب فصول الرواية جاءت بشكل جمعي لحركة شخوصها وامتزجت بعلم أو من دون علم الكاتب مع حكايا واساطير تحدثت عن العشق العذري والخيانة والغدر وإلى جوانب حياتية أخرى قد تعمد الكاتب ان يزج ابطالها فيها( شعلان ) و( مكحولة) التي وصفها( بأجمل النساء) كانت تخون زوجها وتقتلها الغيرة في نفس الوقت على زوجها وهي تعلم بخيانته لها( اطرق شعلان حائرا وهو ينصت حزينا ،تذكر تلك اللحظة الدامعة التي غدت فيها( مكحولة) زوجة لاخيه سرحان.. كان يحبان بعضهما بجنون يتذكر انه رأها أول مرة مع أهلها في سوق القماش في المدينة الكبيرة، والتقت عيونهما لقاء إعجاب متبادل صامت واعلمه قلبه انه الحب وقال بصوت عال:_ تلك هي أعراضه الجميلة التي يتغنى بها الشعراء والمطربون )..في هذا المشهد ترى هل كان يريد ان يتلاعب بمشاعر المرأة ام أنه كان يريدها ان تكون هي الحافز لتجسيد دورها اينما يكون في المدينة أو القرية وقدرتها على تصوير المشاهد الإنسانية التي تتعدى حدود الرغبة وشهوة الجسد العارمة...أقول أن مايميز رواية( أمطار متأخرة ) هو تناولها لعالم القرية واسرارها في العهود الماضية قبل ان تبدأ رحلة الريف إلى المدينة وهي تروي قصصا مختلفة عن عوائل كانت تعيش في ذلك الجو الهاديء المشحون بالعواطف والحنين فهي تروي قصة عائلة الحكواتي شعلان الحاجم وزوجته الجميلة مكحولة واولادهما كاشفة عن بيئة محدودة لكنها تصب في عمق التساؤلات الكونية عن الإنسان والحياة في أسلوب سردي مبسط وواضح وسلس لحكايا شعبية تخلتها أساطير الأولين من الناس البسطاء..ان ( أمطار متأخرة ) ليست بالرواية العادية انما هي تكشف مدى حيرة الإنسان عندما يجبر على ممارسة حياة الجهل وتسلط عوالم الخرافة والتخلف التي يعالجها بالهجرة من الريف إلى المدينة وهو ⁹يتحدى اقدارها بمواجهة قاسية مباشرة مع الواقع الذي تحمل اوزاره في جدلية محيرة بين الواقع الضيق والخيال الواسع .