بغداد ملتقى شباب القصيدة
عبدالرزّاق الربيعي
شغلت زيارة الأماكن القديمة التي أمضى الشعراء في أكنافها شطرا من حياتهم، أذهانهم، وأثارت في أنفسهم لواعج الحنين مع إدراكهم بأن الزمن يمضي إلى الأمام، وسكب الشعراء حروف كلماتهم على الأطلال، منذ أن تفتّح وعي الإنسان، وأدرك حركة الزمن، فصارت (المقدّمة الطلليّة) غرضا شعريا وركنا من أركان القصيدة العربية في العصر الجاهلي، ومن أشهرها معلقة أمريء القيس التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وعندما زار الشاعر الراحل سليمان العيسى عام 1969 م بغداد التي أمضى فيها شبابه طالبا في دار المعلمين العالية، بعد مرور اثنين وعشرين عاما على تخرّجه منها، ألقى قصيدة حملت عنوان (خذي شفتي) في مهرجان الشعر التاسع، الذي أقيم أواخر ابريل 1969 م، سرعان ما جرتْ على كلّ لسان، واستنسخها الطلبة، وحفظوها، وصاروا يردّدونها في كلّ حفل تقيمه (الدار) التي تحول اسمها إلى (كلية التربية)، وقبل أن أذكر شيئا من أبيات القصيدة، لابدّ من الإشارة إلى أن العيسى، المولود عام 1921 م في انطاكيا التركية والمتوفى بدمشق عام 2013 م دخل دار المعلمين العالية عام 1944م وتخرّج فيها عام 1947م، وخلال تلك السنوات تعرّف على الشاعر الرائد بدر شاكر السياب، ولقيا اهتماما من د. محمد مهدي البصير، وأدخلهما في لجنة ثقافية طلابية كان يشرف عليها، فاقتربا أكثر ثم اتسعت الدائرة فتعرفا على لميعة عباس عمارة، وإحسان الملائكة، شقيقة الشاعرة نازك، وآخرين.
وقد عُرف عن الشاعر سليمان العيسى بتوجّهاته الوطنية والقومية، وقصائده الحماسية التي ردّدت بعض أبياتها الحناجر في المسيرات الشعبية بدول عربية عديدة، لكنّه كشف في قصيدته( خذي شفتي) أن تحت الجوانح قلبا رقيقا، ينبض بالمحبة، وهناك مايشغل الشاعر غير القضايا القومية التي عُرف بها، وكاد ت أن تتسبّب بطرده من (الدار) بأمر من الوصي عبدالإله، لكنه تراجع عن ذلك، بعد تدخّل الخيّرين، من أساتذته :
خذي شفتي يا دارُ، ولْيركَعِ الحبُّ
يُسَلِّمُ عِنْدَ الباِبِ بالدمعة الهُدْبُ
لثمتُكِ سبعاً.. ما ارتَويتُ.. ولا اكتفَى
على العَتَباتِ السمر ثغرٌ ولا لبُ
أتيتكِ هذا الصبحَ كالسرِ زائراً
كما ارتعشَتْ في العُشِّ صاديةٌ زُغْبُ
خذي شفتي فالطفلُ عاد.. ولَمْلِمي
أغانيه.. هل تَبْلى أغانيه.. هل يخبو؟
هنا وقفَتْ يوماً.. هناك تحدَّثَتْ
هنا ابتسمَتْ.. لما التقى الدربُ والدربُ
هنا ارتعشَ الثغرُ الجميلُ مُتَمْتِماً
بنصفِ صَباحِ الخير.. حسْبُ الهوى حَسْبُ
فالماضي لا يعود، وإن عاد الشاعر إلى طفولته، يقول الكاتب الأوروغواني إدواردو جاليانو «حتَّى حين نَعود، نحْن لا نعُود، شيءٌ منَّـا يذهبُ للأبَد»، لذا، غلّف القصيدة حزن، وقد اختار لقصيدته البحر الطويل ليتوافق مع إيقاعه النفسي الحزين وهو يستعيد ذكريات مضت، مثلما استعدت ذكريات الدراسة الجامعية، عندما حللتُ ضيفا على جامعة بغداد، وملتقاها» ملتقى «جامعة بغداد الدولي للشعر الفصيح»، الذي نظمه قسم النشاطات الطلابية بالجامعة، متيحة لي فرصة الاستماع إلى قصائد الطلبة المشاركة في الملتقى الذي يشرف عليه أساتذة متخصصون، ونقاد أكفّاء، فمن أهدافه الكشف عن مواهب الطلبة ليس فقط في جامعة بغداد، بل في الجامعات العراقية، والتعريف بها، وقد سبقت الملتقى تصفيات، ومنافسات، أجريت لاختيار الأفضل، فبلغ عدد المشاركين حوالي مائة شاعر وشاعرة من جميع المحافظات.
ورغم أن الطابع التقليدي غلب على الكثير من النصوص المشاركة، لكنّ الملتقى وفّر فرصة للمشاركين لمراجعة أنفسهم، وأدواتهم، لتطويرها، والتعرّف على الهِنات التي وقعوا بها، شأن بدايات كلّ الذين سلكوا هذا الطريق، كما أنه جعلهم يبنون علاقات مع شعراء شباب يسيرون معهم على الطريق نفسه، وهذا أعاد إلى ذهني ذكريات لا تمحى خلال مشاركاتي في لجان تحكيم الملتقى الأدبي الذي تقيمه وزارة الثقافة والرياضة والشباب، الذي عرّفنا على الكثير من المواهب ليس في الشعر الفصيح فقط، بل في الشعبي، والقصّة القصيرة.
إن المواهب الشابة تحتاج إلى الرعاية، ومثل هذه الملتقيات تتيح فرصة لهذه الشريحة التي نعقد عليها الآمال المضيئة، فالغد المشرق للشباب.