الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أذن وعين.. عبد الكريم قاسم كما رأيته

بواسطة azzaman

أذن وعين.. عبد الكريم قاسم كما رأيته

عبد اللطيف السعدون

رأيت الزعيم عبد الكريم قاسم للمرة الأولى وجها لوجه عندما كنت طالبا في الاعدادية، حدث ذلك في العام 1959 عندما كان منع التجوال ليلا مفروضا من السلطة لظرف طارئ، وقد حصلت على بطاقة صحفية تتيح التجول في فترة المنع، واعتدت مع زميل الدراسة آنذاك بديع عارف عزت (المحامي فيما بعد) الذي حصل، هو الآخر، على بطاقة مماثلة، التجوال في شوارع بغداد ليلا بدافع الفضول، وفي أحدى جولاتنا الليلية، وكنا في منتصف شارع الرشيد، اقتربت منا سيارة على نحو مفاجئ، واذا بالزعيم يفتح نافذة السيارة ويسألنا عما نفعله في هذا الوقت، وبمجرد ادراكنا أن قاسم هو بعينه من يسألنا ارتبكنا ، ولم نعرف كيف نجيب، لكننا سارعنا للتلويح ببطاقتي السماح، واكتفى الزعيم بذلك متمنيا لنا التوفيق بعملنا.

    وتشاء الأقدار بعد أكثر من سنتين أن تتاح لي فرصة الاقتراب أكثر من شخصية الزعيم أثناء عملي مذيعا في راديو بغداد اذ كلفت بنقل احتفال برعايته لوضع حجر الأساس لمشروع إسكاني في أحد أحياء بغداد.

    تقدمت بشيء من الخوف والتهيب لأقف إلى جانبه، وهو يتهيأ لوضع حجر الأساس، ويبدو انه لاحظ ذلك مرتسما على ملامح وجهي فالتفت إلي، وكأنه يهدئ من روعي، وقد رأيت فيه شخصية كاريزمية تجعل كل العيون شاخصة نحو عينيه، فيما عيناه تتقدان حدة، وكأنه يخاطب كل امرئ لوحده

    كان التقليد في احتفال كهذا أن توضع نسخ من الصحف الصادرة في ذلك اليوم، وقطع من العملة في صندوق صغير يغلق ويودع عند الحجر الأساس، وقد تقدم أحد المرافقين وهو يحمل مجموعة الصحف، استل منها جريدة «اتحاد الشعب» لسان الحزب الشيوعي، وقدمها للزعيم إلا أن الزعيم تجاهل ذلك، وامتدت يده لتلتقط جريدة «صوت الأحرار»، وهي جريدة يسارية مستقلة قائلا «نضع أولا صحيفة الأحرار الذين آمنوا بالشعب وصنعوا ثورته الخالدة»، واختار بعدها صحيفة «الثورة» لصاحبها يونس الطائي الذي تبنى في حينه الدعوة لتشكيل حزب باسم «حزب الزعيم»، وقد علق قاسم وهو يضع الجريدة في الصندوق بالقول: «هذه هي صحيفة ثورة 14 تموز الخالدة»، بعد ذلك وضع الصحف الأخرى من دون تعليق.

    وفي تصرفه هذا بدا وكأنه يريد أن يلغي انطباعا لدى الكثيرين على أنه قريب من الشيوعيين، وأن يبعث برسالة إلى الشيوعيين أنفسهم مفادها أنه زعيم كل العراقيين، وليس زعيما لفئة بعينها فقط مهما كان حجمها وتأثيرها.

    وفي حفل مماثل كنت أقف إلى جانبه حاملا جهاز التسجيل، وذلك لتسجيل خطاب الافتتاح، وبينما كان مسترسلا في خطابه اكتشفت أن الجهاز قد توقف عن التسجيل لخلل فني لم أكن قادرا على إصلاحه، وعندما انتهى من إلقاء خطابه فكرت أن اطلع اللواء أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام الذي كان يرافقه على ما حدث لعله يجد لمأزقي حلا ينقذني من عقاب قد ينالني، ولكنني بعدما شرحت له الموضوع فوجئت بإجابته بأنه لا يمكنه إعطاء رأي في موضوع كهذا، وان علي أن أتصرف بما أراه مناسبا من دون أن يعرف أحد أنه قد عرف بالواقعة، وقد قدرت في حينه أنه يخشى غضب الزعيم عليه، وعندما عدت إلى الإذاعة فعل الحظ فعله، وأذيع القسم المسجل من الخطاب، ولم ينتبه أحد أن ثمة بقية لم يتم تسجيلها، ومر المأزق هذه المرة أيضا على خير.

    في مناسبة ثالثة حضرها قاسم، وكنت أحد شهودها، تقدمت امرأة من بعيد تبغي الوصول إليه، وكان يحيط به رجال الحماية الذين حاولوا منعها من التقدم لكنها استطاعت أن تصل على بعد بضع خطوات منه، وهي تصرخ شاكية من ظلم ألحقه بها مسؤول إداري، وقد نهرها المرافق الأقدم العقيد وصفي طاهر وأمسك بها محاولا إعادتها إلى الخلف فأطلقت صرخة لفتت انتباه الزعيم الذي بدا عليه الغضب، ولمحت الشرر يتطاير من عينيه وهو يأمر طاهر بان يدعها تتقدم قائلا «إذا لم يستطع المواطنون أن يشكوا إلى الزعيم مما يتعرضون له فلمن يشكون إذن؟»، وما لبث أن هدأ من روعها واستمع إلى شكواها وأمر بإنصافها.

    لاحظت أنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها قاسم إلى كونه «زعيم البلاد» فقد كرر أكثر من مرة في خطبه عبارة أن «الكل وراء الزعيم»، وكان واضحا أنه يرتاح لهذا اللقب أكثر من أي لقب آخر، والمعروف أنه عندما رقي من رتبة زعيم ركن إلى رتبة فريق ركن باعتباره القائد العام للقوات المسلحة حمل الرتبة لكن اسمه بقي مقرونا بلقب (الزعيم) حتى في المخاطبات والمناسبات الرسمية، وقد أضاف إليه أنصاره صفة «الأوحد» بعد إقصاء عبد السلام عارف الذي كان ينافسه على زعامة البلاد.


مشاهدات 672
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/02/16 - 11:35 PM
آخر تحديث 2024/07/23 - 6:17 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 128 الشهر 9839 الكلي 9371911
الوقت الآن
الثلاثاء 2024/7/23 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير