الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
اللا دولة تعمّق الإنقسام

بواسطة azzaman

اللا دولة تعمّق الإنقسام

خالد محسن روضان

 

إذا كانت الدولة أعظم منجز بشري في التاريخ، فلأنها الإطار الوحيد القادر على تأمين وظيفتين أساسيتين لا غنى عنهما: حفظ الأمن والنظام العام، وحماية أرواح وممتلكات المواطنين. وفي نموذج دولة الرعاية الحديثة، تقوم المواطنة على أربعة أركان مترابطة هي: الحرية، والمساواة، والشراكة، والعدالة، ولا سيما العدالة الاجتماعية، بوصفها جوهر القيم الإنسانية التي نصّت عليها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

صراع الهويات

ورغم تطور المجتمعات البشرية في مفهوم المواطنة، إلا أنها واجهت تحديات معقدة ومركبة، أدّت في كثير من الأحيان إلى العنف والإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر، بسبب التعصب والتطرف واحتدام صراعات الهوية، حتى بات السلاح وسيلة لحسم الخلافات بدل القانون.

في العراق، تأسست الدولة الحديثة عام 1922 برعاية بريطانية، غير أن الحفاظ عليها لم يتحقق.

 فمنذ 14 تموز 1958 بدأت عملية الهدم التدريجي لمؤسسات الدولة، وصولًا إلى عام 2003، حين جاء الاحتلال ليهدم ما تبقى منها. ومنذ ذلك التاريخ، دخل العراق مرحلة معاناة مركبة، تتفجر أزماتها بين حين وآخر، لتحل حالة “اللا دولة” محل الدولة.

وغياب الدولة أفسح المجال أمام صعود الهويات الفرعية، وتغوّل الأحزاب السياسية، وسيطرتها على الثروة والمجتمع، في ظل اعتماد اقتصاد ريعي أحادي قائم على صادرات النفط. هذا النموذج الاقتصادي لم يُنتج تنمية حقيقية، بل عمّق الانقسامات ورسّخ نظام المحاصصة السياسية والطائفية، الذي انعكس سلبًا على بناء الدولة ومؤسساتها خلال عقدين من الزمن.

ولفهم طريق المعالجة، لا بد من التوقف عند تجارب دول أخرى، مثل الهند، التي تأسست دولتها الحديثة في ظل الاستعمار البريطاني، لكنها نجحت في إدارة تنوعها القومي والديني واللغوي ضمن إطار مواطنة متساوية. وقد اتفق الجميع هناك على اعتماد اللغة الإنجليزية لغةً رسمية للتعامل، فوُضع قطار الدولة على السكة الصحيحة، حتى أصبحت الهند اليوم دولة نووية ومن كبار اقتصادات العالم.

وفي الهند، يذهب المواطن إلى الانتخابات المحلية دون أن يسأل عن طائفة المرشح أو قوميته، بل يختار من يخدمه. أما في العراق، فقد تعمّقت الانقسامات إلى حدّ بات فيه الانتماء الطائفي أو القومي معيارًا للتقييم، وهو أمر يعكس حجم الأزمة التي خلّفها نظام المحاصصة والاقتصاد الريعي.

اقتصاد السوق

إن المعالجة الحقيقية تبدأ بالتحول نحو اقتصاد السوق المنتج، بوصفه شبكة مترابطة من المصالح الاقتصادية. فعندما يُنشأ مشروع إنتاجي، تتداخل حلقات العمل بين الزراعة والصناعة والخدمات والنقل، فتتشابك مصالح المجتمع، وتصبح الدولة معتمدة على الضرائب لا على الريع النفطي.

في النظام الريعي، حيث تمتلك الدولة كل شيء، فإن ما يُمنح للمواطن يتحول إلى “مكرمة”، وهي حالة غذّت الاستبداد والتسلط وعمّقت الانقسام المجتمعي، بعكس الاقتصادات المنتجة التي تجعل الحكومة خاضعة للمساءلة الشعبية.

واليوم، يعاني العراق من تآكل الطبقة العاملة والوسطى، وارتفاع أعداد الخريجين العاطلين عن العمل، وهي شريحة مرشحة لأن تكون عامل تغيير حاسم في المستقبل، إذا لم تتجه الدولة بجدية إلى تنويع الاقتصاد عبر الزراعة والصناعة والسياحة والنقل والاتصالات والخدمات.

إن استمرار حالة “اللا دولة” يعني استمرار الانقسام وعدم الاستقرار. أما استعادة الدولة، فلا تتحقق بالشعارات، بل ببناء اقتصاد منتج، ومواطنة متساوية، ومؤسسات قوية قادرة على إدارة التنوع بوصفه مصدر قوة لا سبب صراع.


مشاهدات 40
الكاتب خالد محسن روضان
أضيف 2025/12/30 - 4:25 PM
آخر تحديث 2025/12/31 - 12:41 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 30 الشهر 22968 الكلي 13006873
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير