عِشّ الدبابير
حاكم الشمري
ليس أقرب إلى الخطر من الاقتراب من عشّ الدبابير، ولا أشدّ وجعًا من لسعةٍ تأتيك وأنت تظن نفسك في مأمن. هكذا تمامًا تبدو رحلة المواطن البسيط حين يقرر دخول دهاليز تسجيل السيارات، حاملاً أوراقه بيد، وقلقه بالأخرى، وهو لا يعلم أن بعض هذه الدهاليز تحوّلت إلى مواطن نشطة لفنون النصب والاحتيال، تُدار بذكاء، وتُسوَّق بوقاحة، وتُحمى أحيانًا بالصمت. منذ اللحظة الأولى، يكتشف المراجع أن المعاملة لا تُقاس بالقانون، بل بسرعة “الوسيط”، وأن الطابور ليس لمن سبق، بل لمن دفع. هنا يظهر “المعقّب”، لا كموظف ولا كمراجع، بل ككائنٍ رماديّ، يعرف الأبواب الخلفية، ويتقن لغة الإيماءات، ويجيد تسعير الوقت والقلق. يبدأ العرض غالبًا بنبرة ودودة: “خلّصها اليوم… لا تتعب نفسك”. ثم تتدرج الأمور إلى كشف غير معلن عن نظامٍ موازٍ، له تسعيرته الخاصة، ووقته الخاص، وقوانينه غير المكتوبة. معاملة يفترض أن تُنجز خلال أيام، تختصر بساعات مقابل رشوة، أو تتعقّد عمدًا لتُجبر صاحبها على القبول بالدفع. الخطير في هذا العشّ، أن الدبابير لا تلسع وحدها، بل تُربّي دبابير جديدة. فبعض المعقّبين ليسوا سوى ضحايا سابقين، تعلّموا اللعبة بعدما أُنهكوا بها. ومع مرور الوقت، تتحوّل الرشوة من فعلٍ مُدان إلى “عرفٍ إداري”، ويصبح الاحتيال مهارة، لا جريمة. أما المواطن، فيقف في المنتصف، بين موظفٍ يختبئ خلف التعليمات، ومعقّبٍ يتاجر بتجاوزها، وإدارةٍ تعرف كل شيء… أو هكذا يُقال. فيضطر إلى دفع ما لا يجب، ليس لأنه مقتنع، بل لأنه محاصر. الأخطر من المال المسلوب، هو الثقة المسروقة. فحين يتحول القانون إلى سلعة، والدولة إلى نافذة جانبية، يُقتل الإحساس بالعدالة، وتُربّى أجيال تؤمن أن الحقوق لا تُؤخذ، بل تُشترى. إن تفكيك هذا العشّ لا يبدأ بحملات موسمية، ولا بتصريحات إعلامية، بل بإجراءات جذرية: أتمتة حقيقية لا شكلية، رقابة صارمة، محاسبة علنية، وتجفيف منابع “التعقيب” غير القانوني. والأهم، حماية المواطن الذي يرفض الدفع، لا معاقبته بالتأخير. عِشّ الدبابير ليس مكانًا… بل منظومة. وكسرها يتطلب شجاعة توازي شجاعة من يقترب من عشٍّ يعرف مسبقًا أن اللسعة مؤلمة، لكنه يصرّ على اقتلاعه.